أصبحت علاقة الإسلام بالسياسة من بين المشكلات الأساسية التي تعترض طريق الإصلاح السياسي في العالم العربي. بل إنها أصبحت مشكلة عالمية بحكم سيادة ظاهرة العولمة بتجلياتها الاتصالية، بحيث أصبحت الدعاوى والحركات والاتجاهات الإسلامية عابرة للحدود. وإذا أضفنا إلى ذلك تواجد ملايين المسلمين في مجتمعات أوروبية متعددة اكتسبوا جنسياتها، ويحرصون في غالبيتهم العظمى على عدم الاندماج في الثقافة الغربية، ندرك أننا بصدد مشكلة عالمية أكثر من كونها محلية أو إقليمية. وربما كانت جماعة "الإخوان المسلمين" التي أنشأها الشيخ حسن البنا في مصر عام 1928، هي كبرى الحركات الإسلامية الحديثة التي استطاعت أن تحول الدعوة إلى حركة جماهيرية منظمة. وسرعان ما أصبحت للجماعة فروع في بلاد عربية متعددة، وإن اتخذت في كل بلد عربي شكلاً يتفق مع الخصائص السياسية لكل نظام عربي. ويمكن القول إن الجماعة نجحت في بداياتها نجاحاً ملحوظاً في القيام بهذه المهام. غير أن الانحراف الحاد في مسيرتها بدأ مبكراً حقاً حين أقامت "جهازاً سرياً" مهمته ردع الخصوم السياسيين، واغتيال الشخصيات السياسية التي لا ترضى عنها. وقام هذا الجهاز -الذي قيل فيما بعد- إنه انفلت ولم يستطع حتى الشيخ حسن البنا السيطرة عليه بعدد من الاغتيالات السياسية. وذلك أدى إلى حل الجماعة بعد أن اصطدمت بشدة مع النظام السياسي الليبرالي قبل ثورة يوليو 1952، والذي كان يقوم على الملكية الدستورية وتعدد الأحزاب وذلك في ضوء دستور عام 1923. هذا الصدام الأول بين "الإخوان المسلمين" والنظام السياسي الليبرالي المصري سرعان ما تكرر فيما بعد. اصطدمت الجماعة بنظام ثورة يوليو 1952 مما أدى إلى اعتقالات واسعة لأعضائها، بل إلى إعدام بعض قادتها، وفي مقدمتهم سيد قطب في قضية الانقلاب على نظام الحكم المعروفة. وإذا كان الرئيس السادات قد قام بمصالحة تاريخية مع الجماعة من بعد وسمح لقادتها المهاجرين بالعودة إلى مصر، وأتاح لهم إصدار صحفهم مرة أخرى، إلا أن الصِّدام سرعان ما تم بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ومن ثم بدأ الصراع من جديد. وها نحن في عصر الرئيس مبارك نجد أن الصراع قد اشتد بين الجماعة والنظام مرة أخرى. ما هي المشكلة التي أدت إلى اصطدام جماعة "الإخوان المسلمين" مع أربعة نظم سياسية مصرية متتابعة ومختلفة اختلافات جوهرية في اتجاهاتها؟ صِدام مع نظم ليبرالية واشتراكية وانفتاحية ورأسمالية. ألا يدعو ذلك للتساؤل عن طبيعة المشكلة، وهل الخطأ يقع على عاتق جماعة "الإخوان المسلمين"، أم على عاتق قادة هذه النظم المختلفة جميعاً؟ الواقع أن التحليل الدقيق للمشكلة يؤدي بنا إلى إجابة واحدة مبناها أن "الإخوان المسلمين" حركة إسلامية انقلابية، تسعى إلى قلب الدول العربية المعاصرة باعتبارها دولاً علمانية أقيمت على النسق الديمقراطي الغربي المرفوض، وإقامة دول دينية تطبق الشريعة الإسلامية بحذافيرها وبكل تفصيلاتها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. ولو ألقينا نظرة مقارنة على سلوك جماعة "الإخوان المسلمين" في بلاد عربية شتى وعلى الأخص في مصر وسوريا، لاكتشفنا أن هذه الجماعة حاولت باصطناع وسائل شتى تكييف نفسها مع النظام السياسي العربي المعاصر بالدخول -لتحقيق أهدافها الاستراتيجية- من مدخل القبول بالديمقراطية بما تتضمنه من تعددية سياسية. وفي هذا المجال حدث اجتهاد يقول إن الشورى هي الديمقراطية، وإن جماعة "الإخوان المسلمين" يمكن أن تنشئ حزباً سياسياً تنافس به باقي الأحزاب السياسية للوصول إلى السلطة ديمقراطياً. إلا أن تأسيس حزب سياسي إسلامي يتضمن إشكاليات متعددة ويحتمل اجتهادات مختلفة. غير أنه حدث تحول أساسي في توجهات جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر حين أعلنت أنها بصدد إنشاء حزب سياسي ستطرح برنامجه للرأي العام قريباً. وأوفت الجماعة بوعدها وطرحت البرنامج المقترح فعلاً، وأرسلت نسخاً منه إلى عدد كبير من المثقفين الذين ينتمون إلى اتجاهات مختلفة بخطاب موقع من مرشد الجماعة، طالباً تقديم الملاحظات النقدية على البرنامج للاستفادة بها في إعادة صياغته. وقد أرسل لي البرنامج ودرسته بدقة، واكتشفت على الفور أن الفكرة المحورية فيه هي السعي لإقامة دولة دينية تقوم على الفتوى بدلاً من الدولة المدنية الراهنة التي تقوم على التشريع في ضوء رقابة الرأي العام. وقد أشرنا إلى ذلك بوضوح في مقالنا الماضي "التطرف الإيديولوجي ومخاطر الدولة الدينية". على أن النظرة المقارنة لاجتهادات جماعة "الإخوان المسلمين" في كل من مصر وسوريا تفضي إلى نتيجة بالغة الأهمية. وتتمثل هذه النتيجة في أن جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر تتشبث بتأسيس دولة دينية تقوم على الفتوى، لأن برنامجها السياسي المطروح يقرر صراحة ضرورة تشكيل لجنة من علماء الدين تنتخب انتخاباً مباشراً -ولم يقل البرنامج كيف، ولا ما هو تعريف علماء الدين- يجب أن تعرض عليها قرارات المجالس النيابية لإجازتها، وكذلك قرارات رئيس الجمهورية التي تصدر بقانون في غيبة البرلمان. ومعنى ذلك إنشاء جهاز ديني يقوم بالرقابة على المجالس النيابية المنتخبة انتخاباً مباشراً وكذلك على قرارات رئيس الجمهورية. وهو اقتراح يمكن وصفه بأنه مضاد للديمقراطية! وذلك لأن الديمقراطية المعاصرة في ظل العلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة، تقوم أساساً على دساتير تحدد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، ليس على أسس دينية ولكن على أسس دستورية أصبحت اليوم قيماً مستقرة في كل المجتمعات المتقدمة. وإذا كان حزب "الوسط" أراد بذكاء شديد أن يتجنب مأزق اتهامه بأنه أيضاً -لا خلاف بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين- يسعى إلى إقامة دولة دينية وهي فكرة مرفوضة أساساً، فسمى المشروع بأنه حزب سياسي بمرجعية إسلامية، غير أنه أخفق في تحديد ما يعنيه حقيقة بالمرجعية الإسلامية. وكان ينبغي أن يقرر أنه يستوحي توجهاته العامة من القيم الإسلامية ولكن المرجعية مرجعية دستورية! لأن نص المادة الثانية من الدستور المصري والتي تقضي بأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع جعلت في الواقع كافة الأحزاب السياسية المصرية على اختلاف توجهاتها تخضع لهذه المرجعية. إلا إذا ظهر حزب سياسي يرفض المادة الثانية من الدستور ويطالب بإلغائها، وينطلق من توجهات أخرى. وخلاصة ما نريد التأكيد عليه أنه أخيراً ثبتت الرؤية، وتأكدنا مما سبق أن ما استخلصناه من تحليل خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة، وهو أن هدفها الأسمى هو إقامة دولة دينية على أنقاض الدولة المدنية الراهنة. غير أن جماعة "الإخوان المسلمين" في سوريا تطرح برنامجاً سياسياً مختلفاً، لأن قادتها يقيمون البرنامج على أساس ديمقراطي كامل وبمرجعية منفتحة كما يقولون. وهم لا يدعون إلى تأسيس دولة دينية، وإنما -هذا حقهم- يستوحون القيم الإسلامية في السياسات المختلفة التي يقترحوها من أجل التقدم والنهوض. وهذا المشروع يستحق أن ندرسه بالتفصيل لأنه يقدم رؤية إسلامية متقدمة. وقد صدر هذا المشروع بعنوان "المشروع السياسي لسوريا المستقبل: رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سوريا". وهذا يدل على أنه أصبحت لدينا اجتهادات في مجال حركة "الإخوان المسلمين" على النطاق العربي. اجتهاد الدولة الدينية المرفوض واجتهاد الإسلام الديمقراطي الذي يمكن بعد دراسته أن يكون مقبولاً من قبل عديد من الأحزاب السياسية العربية. فلنحاول في مرة قادمة أن نلقي الأضواء على هذا المشروع الإسلامي السوري المهم.