يعتبر التداخل بين ما يعرف بـ"التنظيم"، وبين "الحركة" واحداً من أهم مظاهر الأزمة الفلسطينية الراهنة. وتاريخياً يستخدم مصطلح "الحركة" في حركات التحرر، للإشارة إلى أطر جامعة توحِّد القوى الشعبية، وتعتمد على المبادرة الطوعية، من مجموعات مختلفة، تتحرك على أساس برنامج وطني عام، مع قدر كبير من اللامركزية. وفي السياق الفلسطيني فإنّ حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، تأسست قبل نحو 50 عاماً على أساس كونها الإطار الوطني الجامع الذي تذوب فيه التيارات الفكرية والسياسية بغرض تحقيق التحرر الوطني. وعندما تأسست حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بعد ذلك بنحو ثلاثين عاماً، كانت الفكرة، نظرياً على الأقل، أن تكون الحركة ذراعاً لجماعة "الإخوان المسلمين"، ولكن مع استقطاب عناصر أقل ارتباطاً بأيديولوجيا "الإخوان"، في محاولة للتحول إلى تيار شعبي أكثر اتساعاً، خاصة مع محدودية شعبية "الإخوان" فلسطينياً، آنذاك. أمّا مصطلح "التنظيم" فرغم قدمه فلسطينياً، إلا أنّ تداوله تصاعد بداية التسعينات، مع تأسيس السلطة الفلسطينية، وتحول حركة "فتح" إلى حركة علنية، حيث بات التنظيم رديفاً للسلطة، وطغى على الأجهزة الأمنية وعلى مؤسسات السلطة، وأصبح قادة التنظيم -هم على الأغلب قادة أجهزة أمنية، أو متفرغون للتنظيم، وأصبح أعضاء التنظيم موظفين في أجهزة السلطة، أو ضمن ما يعرف باسم "التفريغ" للنشاط التنظيمي مع حصولهم على "مخصصات" مالية شهرية، دون أن يلغي هذا دور كثير من عناصر الأمن في المقاومة، ودون إغفال رفض عناصر ومجموعات عديدة في "فتح" الانخراط في هذه المنظومة الجديدة، واستمرارها في نشاطها الطوعي. جاء الانهيار في غزة، في وجه "حماس" إعلاناً لفشل معادلة التنظيم هذه. ثم بدت "فتح الحركة" كما لو كانت تعود للواجهة عقب سيطرة "حماس" على القطاع، وخروج قادة التنظيم الذين أعطيت لهم، بحسب تعبير القيادي في "فتح"، نبيل عمرو، "مقاولة" قطاع غزة، ونجح أنصار "فتح"، بالقطاع، في تأكيد قوتهم الشعبية في مناسبات مثل حفلات الزفاف التي تحولت إلى مناسبات لإعلان التمسك بالحركة، والأمر ذاته ينطبق على الصلوات في الساحات العامة التي دعت إليها "فتح"، حيث بدا ما يحدث بمثابة عودة لجماهير الحركة، أي الذين يؤيدونها لأسباب تتصل بدورها التاريخي، ومنطلقاتها الفكرية والسياسية، وليس على خلفية "الوظيفة"، والارتباط التنظيمي الرسمي. ولكن "تنظيم" فتح سرعان ما خذل "حركة" فتح. فسرعان ما برزت الخلافات الداخلية، واستقالت اللجنة القيادية الرئيسية التي عينها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لإدارة شؤون الحركة في غزة، ويبدو أنّ عدم وصول رواتب عسكريي "فتح" في غزة، من أهم أسباب الاحتجاجات والاستقالات، ليبدأ فصل جديد من أزمة "فتح" التنظيم، والتي تنعكس على مستقبل حركة "فتح"، وعلى الحركة "الوطنية" ككل. بالمقابل وبالتوازي تبدو "حماس" سائرة على خطى "فتح"، بالتحول إلى بنية بيروقراطية، وإلى سيطرة التنظيم على مؤسسات الحكومة. وكتائب "القسّام" التابعة لـ"حماس"، وحتى قبل انهيار السلطة مارست عمليات في صلب أعمال أجهزة الأمن، ومن ذلك الاعتقال والمداهمة، وتتشكل الآن أجهزة أمنية في غزة تعيش ذات نوع طغيان التنظيم عليها، فمثلاً يتولى قادة "حماس"، مثل محمود الزهار وسعيد صيام، الحديث وإعلان القرارات في شؤون حكومية وأمنية صرفة، مثل كشفهم وثائق للمخابرات الفلسطينية، والحديث عن ترتيبات دفع "حكومة غزة" للرواتب، دون أن يكون لهم أي موقع حكومي رسمي، وتقوم "كتائب القسام" بتنفيذ مداهمات واعتقالات لأسباب مختلفة، دون أن تكون لها أي صفة رسمية، ويكشف ما أعلنته القوة التنفيذية من "خصم 5% من رواتب موظفيها هذا الشهر دعماً للعمال العاطلين عن العمل"، أنّ "حماس" تدبرت أمر رواتب عسكرييها ولا تعاني مشكلة مالية، مما يجعل لديها ذات "التنظيم المحترف" وفي الحالتين؛ "فتح" و"حماس"، يتم اختزال متطلبات التحرر الوطني، من طرح برامج سياسية ونضالية ودبلوماسية وطنية واضحة للمراحل المقبلة في مواجهة الاحتلال، ومن بناء مؤسسات وطنية جامعة، لصالح البنى التنظيمية، وتتحول المشاركة الطوعية الذاتية في النضال الوطني إلى علاقة بيروقراطية وأمنية وحسابات سلطوية. aj.azem@gmail.com