لسبب أو لآخر، لطالما تعثرت الجهود الدولية للقضاء على فيروس شلل الأطفال بسبب العديد من العوامل والأسباب، مثل الشائعات الاجتماعية، والاضطرابات السياسية، والصراعات العسكرية. هذه الحقيقة ظهرت مؤخراً بشكل جلي، عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية عن التوصل لاتفاق مع حركة "طالبان"، سيسمح بموجبه زعماء الحركة لأكثر من عشرة آلاف موظف صحي، بتنفيذ حملة لتطعيم مليون وثلاثمائة ألف طفل في مقاطعتي قندهار وهلمند في الجنوب الأفغاني. ويأتي هذا الاتفاق بين إحدى أهم المنظمات التابعة للأمم المتحدة وبين "طالبان"، على رغم غياب الاعتراف الدولي بالحركة، وتصنيفها كمنظمة إرهابية، تسعى قوات "الناتو" لتدميرها عن بكرة أبيها. وهو إن دل على شيء، فإنما يدل على أن أية جهود للقضاء على فيروس شلل الأطفال، لابد وأن تتكيف مع الواقع السياسي والعسكري والاجتماعي في المناطق المستهدفة. فأفغانستان واحدة من الدول الأربع، التي لا زال الفيروس يستوطن فيها، وهي أفغانستان، وباكستان، والهند، ونيجيريا، حيث تم اكتشاف 29 حالة إصابة في الجنوب العام الماضي. ورغم أن عدد الحالات التي تم اكتشافها وتوثيقها في أفغانستان ليس مثيراً للقلق، إلا أن الحقيقة هي أنه لا أحد يدري بالضبط العدد الحقيقي للإصابات، بسبب الوضع المعروف في تلك المنطقة، والمتمثل في انهيار الخدمات الصحية، وفقدان الأطباء والعاملين الصحيين، الذين يمكنهم تشخيص الحالات والإبلاغ عنها من الأساس. ويعود السبب في ذلك إلى تكرار خطف العاملين الصحيين من قبل مقاتلي الحركة، نتيجة الاشتباه في قيامهم بنشاطات تبشيرية مسيحية أثناء تأديتهم لعملهم. بالإضافة طبعاً إلى تأثير القنابل (الذكية) للقوات الأميركية، وقوات حلف "الناتو"، والتي دمرت المستشفيات والعيادات، ولم تبقِ أو تذر أية بنية تحتية صحية تذكر. ولكن لحسن الحظ، أدرك زعماء "طالبان" -من مخابئهم في الكهوف- خطورة الموقف، وبادروا بمنح ممر آمن لأصحاب المعاطف البيضاء، بشرط أن يحملوا معهم تطعيماً ضد فيروس شلل الأطفال. وهو أمر إذا ما تم، فسيعتبر خاتمة سعيدة للحملة التي بدأتها المنظمة في أبريل الماضي، بهدف تطعيم 40 مليون طفل في أفغانستان وباكستان. ولكن حتى إن نجحت هذه الحملة، وتم القضاء على الفيروس في هذين البلدين، يظل الخطر الأكبر قابعاً في نيجيريا والهند في انتظار الظروف المناسبة كي يطل برأسه القبيح مرة أخرى، وليعيد ذكريات المآسي التي يتسبب فيها هذا المرض اللعين. فحتى منتصف الخمسينات من القرن العشرين، كانت المدن الكبرى حول العالم، تتعرض سنوياً لوباء أو أكثر من شلل الأطفال. فمثلاً في عام 1915 فر الآلاف من سكان مدينة نيويورك إلى الضواحي، بعدما أصاب وباء شلل الأطفال المدينة، مسبباً شلل 27 ألف شخص، لقي تسعة آلاف منهم حتفهم بسبب مضاعفات المرض. وحالياً يوجد ما بين عشرة ملايين إلى عشرين مليون معاق حركياً حول العالم، كانوا قد أصيبوا بالمرض قبل اكتشاف التطعيمات القادرة على تحقيق الوقاية منه. ويشكل هؤلاء حالياً، أكبر مجموعة من البشر المعاقين على الإطلاق. وعلى رغم أن شلل الأطفال مرض قديم قدم التاريخ ذاته، حيث توجد سجلات للمرض على جدران قصور ومعابد الفراعنة، إلا أن الجنس البشري لا زال عاجزاً عن العثور على علاج ناجع لمن يصابون به. ولكن هذا لا يعني أن الطب الحديث لم يحقق انتصارات مهمة وحاسمة أمام هذا المرض، في شكل تطعيمات ولقاحات فعالة في الوقاية من الإصابة. ففي عام 1954 تم اكتشاف أول تطعيم ضد الفيروس، وبعدها بثلاثة أعوام تم اكتشاف نوع أفضل، وهو النوع المستخدم حتى الآن ضمن الجهود الدولية للقضاء على الفيروس. ويكفي أن نذكر أن عدد الإصابات انخفض من 350 ألف حالة في عام 1988، إلى مجرد 1,267 في عام 2004 ، أو ما يعادل انخفاضاً بمقدار 99.8 في المئة، كي ندرك مدى الأثر الذي خلفته حملة القضاء على فيروس شلل الأطفال منذ بدايتها عام 1988. ولكن يبقى الهدف الأكبر، المتمثل في القضاء النهائي على فيروس شلل الأطفال، ليلحق بنفس مصير فيروس الجدري، هدفاً بعيد المنال. وليس ذلك بسبب انتقاص في فعالية التطعيم، ولكن كما ذكرنا نتيجة الاضطرابات السياسية والصراعات العسكرية، التي تهدد أمن وسلامة العاملين الطبيين، وتعيق وصول حملات التطعيم إلى جميع مناطق العالم. ويمكن أن نضيف لتلك الاضطرابات والصراعات، ما يمكن أن نطلق عليه الإشاعات الاجتماعية. وهذا السبب الأخير تجلى قبل أعوام قليلة في نيجيريا، عندما عارض أئمة المساجد ونخبة المجتمع فكرة تعميم التطعيم على كل الأطفال، نتيجة انتشار إشاعة بأن التطعيم غير آمن، ويسبب العقم لاحقاً، كجزء من "مؤامرة" غربية مسيحية لتقليص أعداد المسلمين في هذا البلد الأفريقي الذي تنتشر بين أرجائه بذور الفتنة الدينية. وهو ما تكرر بداية هذا العام، عندما انتشرت إشاعة في باكستان بأن التطعيم يسبب ضعف الانتصاب لدى الرجال، كجزء من "مؤامرة" أميركية لخفض خصوبة الأجيال القادمة. ولكن بين هذه العوائق والمصاعب التي تواجه حملات القضاء على فيروس شلل الأطفال، تظهر من حين إلى آخر بارقة أمل، تشد من عزم القائمين على تلك الحملات، مثل إعلان منظمة الصحة العالمية العام الماضي، نجاح الجهود الرامية للقضاء على الفيروس في كل من مصر والنيجر، بحيث أصبح هذان البلدان آخر أعضاء نادي الدول الخالية من شلل الأطفال. د. أكمل عبد الحكيم