بعد أن حققت إندونيسيا كلَّ تلك المنجزات الاقتصادية والتنموية؛ وتجاوزت أزماتها المُهلكة بفضل السياسات الناجحة لحكوماتها المؤمنة بحتمية التحوّل ومقارعة الكبار حتى لا تكون تابعة للغرب الذي فرضَ عليها سياسات اقتصادية ظالمة؛ وبعد أن تحققت للمجتمع الإندونيسي البنى التحتية لاستضافة مجمعات صناعية يابانية وغيرها؛ ظهرت -قبل أيام- جماعة تنتمي إلى جمعية "محمدية إسلام" تنادي بعودة "الخلافة" وإلغاء الحدود بين الدول الإسلامية. هذا التوجه الفوضوي الذي تقوده تلك الجماعة لا يريد لوجه الحرية والديمقراطية أن يستمر في ذلك البلد الناهض. كما أن هذا التوجه يُذكِّرنا بدولة "طالبان" البائدة -التي كانت تنادي بالخلافة أيضاً وتريد إعادة الشعب الأفغاني والبلاد الإسلامية كلها قروناً إلى الوراء!؟ وتريد إلغاء المدارس الحديثة والجامعات والمعاهد المتخصصة والموسيقى والطب وتهدم آثار الحضارة الإنسانية، وتقارع الأمم المتحدة واليونسكو وكل المنظمات التي ترتب الحياة الحديثة؛ وتُلغي شخصية المرأة وتجعلها تابعة وخادمة لـ"سي السيد" المهيب الجانب، والذي لا تنزل كلمته للأرض. بالله عليكم؛ ماذا كان في "الخلافة" الإسلامية، كما يفهمونها؟ دعونا نفتح ملف التاريخ! لماذا لم يتم التركيز في مناهج التربية وكتب التاريخ الإسلامية على حقيقة وشكل الحكم القائم أثناء الخلافة!؟ ولماذا ركزت المناهج على الجوانب الإيجابية للخلافة واستبعدت أو تجاهلت الجوانب السلبية ؟! ونحن نعلم أن التاريخ دوماً يكتبه المنتصرون؛ وحوادث التاريخ -من وجهة نظر محايدة- والتي درّسونا إياها لم تكن دقيقة بالمعنى العلمي لكتابة التاريخ. بعد مقتل رابع الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ بدأت الفتن والخلافات تظهر على السطح؛ حيث أعلن معاوية نفسه قائداً للأمة؛ مبشراً بعهد جديد، وهو توارث الحكم في سلالته. في الوقت الذي ذهب الحسين بن علي إلى العراق لإقامة دولته المنشودة بحكم أن أهل العراق سيكونون معه. لكن أحدهم قابله في الطريق قائلاً: "لا تذهب.. أهل العراق قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية"! لم يقتنع الحسين رضي الله عنه وذهب وحدث ما حدث في كربلاء؛ حيث تمت محاصرة أهله القليلين وتم قتلهم والتمثيل بهم. وإذا ما تجاوزنا مراحل الدولة الأموية والعباسية والدولة الأموية في الأندلس وسقوطها بفعل الخيانات "الإسلامية" وضعف بعض الخلفاء مثل أبي عبدالله الصغير الذي ضيّع مُلك الإسلام في الأندلس، فإن التاريخ العربي والإسلامي لم يكن محايداً بما فيه الكفاية لتقديم الصورة الجلية عن حقيقة ما حدث في أيام تلك "الخلافة" وما بعدها. ولم يتم تعليمنا في المدارس -طبقاً لتوجهات سياسية- عن حقيقة الخلاف بين السُّنة والشيعة؛ وأن التشيُّع ظهر بعد موقعة صفين وخداع علي بن أبي طالب بقضية رفع المصاحف على الرماح -التي اقترحها البعض؛ وكان أن تجاوب العراقيون مع الخدعة ونادوا بوقف القتال وأجبروا علياً على إيقافه رغم أن النصر كان قريباً من أيدي جماعة عليٍّ. وهنا انقسم جند عليٍّ إلى معسكرين شيعة ظلوا أوفياء له؛ وخوارج رفضوا التحكيم. أما النِّحل أو الجماعات مثل المعتزلة والإباضية والزيدية والمرجئة والجبرية وغيرهم فقد كانوا نتيجة خلافات سياسية في المقام الأول. وهذه الفِرق أيضاً لم تركز عليها مناهج التربية التركيز اللازم كي نفهمها كما فهمها الآخرون. السؤال: ما هو جانب التاريخ العربي والإسلامي الذي يعوّل عليه بعض قِصار النظر من الموتورين الذين يريدون أن نستمد منه مادة التقدم والتطور؟! هل نتحدث عن حرب داحس والغبراء أو حرب البسوس التي دامت أربعين عاماً بين قبيلتين عربيتين؟ أم عن حروب الرِّدة؟ أم عن صراع السلاطين الإخوة وأبناء العمومة ومحاولة كل طرف الاستئثار بالحكم حتى لو قتل الآخر؟ هل نتحدث عن العصر الأموي ودمويته أو العباسي الذي داخَله الفساد وأخرجه من الدائرة الإسلامية، كما كانت في عصرها الذهبي؟ هل نتحدث عن مؤامرات البيت الأيوبي!؟ أم عن انشطار الدولة الإسلامية وتمزقها إلى دويلات هشة أصبحت لقمة سائغة للغرب حيث الاستعمار الحديث والانتدابات و الاحتلالات العسكرية! وقامت الدول الغربية بتقسيم ذاك الكيان إلى دويلات ومناطق نفوذ بين كل من بريطانيا وفرنسا بموجب معاهدة "سايكس- بيكو" المشؤومة! هل نتحدث عن حقيقة قيام الدولة الهشة في البلاد الإسلامية!؟ أو الانقلابات التي تقوم بها بعض العصابات المسلحة؛ كما تم في الصومال وأفغانستان والعراق!؟ أم نتحدث عن تحالفات فئات مع دول استعمارية تم منحها امتيازات خاصة مقابل دعم تلك الفئات في صراعها مع خصومها السياسيين!؟ وهذا ما أفرز العديد من الأنظمة الحديثة التي لم تأتِ عبر صناديق الاقتراع أو التحالفات السلمية مع الشعوب التي كانت تسكن بعض الأصقاع الإسلامية والعربية. حيث كانت الغلبة للفئة الأكثر عدداً والأكثر تحالفاً مع المستعمِرين. وهذا ملف "أحمر" يصعب فتحه هذه الأيام، ولربما استطاع أحفادنا -عبر الديمقراطية وحرية التعبير بعد عشرين أو ثلاثين عاماً- فتحه. وإذا كانت بعض الأنظمة قد استمدت قوّتها وشرعيتها من الإسلام، وقامت بالتحالف مع بعض القوى الثيوقراطية فما الذي تحقق لها أو حققته خلال ستين أو مئة عام!؟ ولم يكن التعليم ولا حرية التعبير ولا الفكر ولا المشاريع النهضوية الخاصة بالإنسان تشغل بال الحكام قدر اهتمامهم بالأمن وتركيز أركان الدولة. وكان العسف والظلم السريع من صفات الدولة الحديثة التي لا تريد أن تسمع أيّ صوت غير صوتها. وإذا ما جئنا للنظم (الجمهورية) في العالم الإسلامي نجد أنها أكثر سوءاً وتخلفاً، فالحاكم يجلس على صدر الشعب طوال حياته؛ وهو نموذج مُقارب لنظام "الخلافة" الذي لا يعترف بشرعية الشعب قدر اعترافه بقدرة وحنكة الزعيم!؟ ولو كان لا يصلح للخلافة مثل أبي عبدالله الصغير وغيره من الحكام والخلفاء في الحقب الإسلامية المختلفة. هذه البلدان الجمهورية غنية بخيراتها وخبرات أهلها ولكن سوء الإدارة جعلها متخلفة. فالرؤى كلها يرسمها الحاكم الفذ "الذي لا يأتيه الباطل من يمينه أو شماله"!؟ وهي رؤى وقتية لا تصلح لبناء الدولة وقيام الأجيال القادمة أو التقارب مع حتميات المستقبل. في هذه الدول تجد الشوارع غير صالحة والتعليم متخلفاً، والخدمات الصحية غاية في السوء؛ والاقتصاد متضخماً والبطالة تحاصر الشباب، والإعانات (المليارديرية) السنوية تأتي وتذهب إلى "غياهب" غير معروفة بعيدة عن خزينة الدولة. والإنتاج الصناعي غير دقيق وغير متقن. ولا يضاهي ذاك الذي يُنتج في تايلاند أو حتى زيمبابوي!؟ ناهيك عن استنزاف مقدرات الشعوب الإسلامية في حروب لا طائل منها، ولعل الحرب العراقية- الإيرانية خير مثال لما جرى بين المسلمين من حروب كان الطرفان فيها خاسرين؟! هذه نماذج من حكومات "الطوائف" الإسلامية التي لم تحقق أدنى شروط أو مستلزمات التنمية الحقيقية مقارنة بالدول التي أقامت دولاً حقيقية ويتمتع أهلها برخاء اقتصادي وحياة إنسانية كريمة، ويكون فيها كل المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات أمام القضاء النزيه الصادق. فهل تريد تلك الجماعة في إندونيسيا العودة بنا إلى بعض عهود "الخلافة" -كما يفهمونها- التي نخجل أن نذكر العديد من سلبياتها، والتي لا تصلح أبداً لحياة اليوم؟! ثم لماذا تظهر هذه الفئة لتثير المشاكل في بلد مسالم ومتطور وهادئ؟! إن الجماعات الإسلامية المسلحة والتي تؤمن بالعنف هي التي تسبب المصائب للإسلام والمسلمين. بل وتؤذي الشعوب الأخرى من الفلبين إلى إندونيسيا وباكستان وأفغانستان والصومال!؟ فهل نقبل منطق "الخلافة" من هؤلاء الذين يذبحون الحياة ولا يرون في هذا الوجود ما يستحق النظر؟!