أرسل لي الفاضل "هافال الزخوي" من العراق عبارة منسوبة للإمام علي بن أبي طالب تقول: "عبدتك يا رب حباً فيك، لا خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك". والكلمات الجميلة الخيالية من دون سيقان من الواقع، نسبها كثيرون إلى أنفسهم، بل وزورت الأحاديث لصالحها، باعتبارها الوعظ المضمون، وليس بمضمون، والواقع أثقل من كل نص، لأنه النص الصحيح غير المحرف، ولا يقبل ذلك. وينسب المعنى السابق أيضاً لـ"رابعة العدوية"، بقولها: "يا رب إن كنت عبدتك لجنتك فاحرمنيها، وإن كنت عبدتك لنارك فاحرقنيها، ولكنني عبدتك لأنك تستحق العبادة". وهي عبارة سيضحك لها الشيوعيون كثيراً، كما ضحكوا من مثالية تولستوي، فأرسلوا له تحذيراً بقرب الانفجار... وهو ما كان؛ فالإنسان له جلد تمساح وبرقعة نمر ودرع سلحفاة وناب أفعى، ولم يدخل الحضارة إلا منذ ستة آلاف سنة! وحين ينسف في أغسطس 2007 مئات الإيزيديين في العراق من عبدة الشيطان في انفجار واحد، نفهم أن عبدة الشيطان أكثر من المنسوفين.. وفقرة الأخ العراقي الكردي من زاخو تذكر بقول فيلسوف التنوير "كانط" عندما نقش على قبره: "شيئان يملآن قلبي بالخشوع: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في صدري". وكان يقصد أن الأخلاق لها ناظمها الذاتي، ودافعها من دون خوف ورغبة. لكن القرآن يقول عن عباده، إنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه "إن عذاب ربك كان محذورا". وحسب محمد إقبال في كتابه "تجديد التفكير الديني" فإن للعقل قسمة مختلفة، تذكر بمخاوف ابن رشد، حين أحضره الفيلسوف ابن طفيل صاحب كتاب "حي بن يقظان" إلى الملك الموحدي -وكان الرجلان متعاصرين- ليشرح رأيه في العامة والخاصة. وإقبال رأى أن سلاح العقوبة مهم للرعاع والعوام في ضبط الأخلاق بسلاح من رعب ورغبة. وذهب عالم النفس السلوكي "سكينر" في كتابه "ما بعد الحرية والكرامة" إلى خرافة الحرية والكرامة، وتحدث طويلاً في شيء سماه "المعزز"، وأعترفُ أن كتابه أخذ مني جهداً كي أفهمه... وهكذا فالناس أصناف ودرجات، منهم المثالي ومنهم المجامل، وهو ما دفع عدداً من الفلاسفة إلى اقتراح نظام دولة من دون دولة، أو مجتمع اللادولة، وقد سماهم التراجمة العرب خطأً "الفوضويين"! وهم ليسوا كذلك، لأنهم رأوا أن الدولة تقوم على الرعب والعصا والسيف والمخابرات، فقالوا بأن الدولة قامت على العنف واحتكاره وكلها شر ويجب التخلص منها، لكن الجنس البشري لم يخترع نظام الدولة بآلة الرعب فيها من خلال احتكار آلة العنف عبثاً، فلولا الدولة لم تولد الحضارة، ولا تمتع الجنس البشري بالأمن فيها فأنجز الإبداع، كما ذهب إلى ذلك المؤرخ "ديورانت"؛ إنها شبكة من الإبداع صعب خلقها سهل تدميرها. ومنظر العراق في عام 2007، أي فيما بعد صدام، يقول لنا خبراً عن أثر الأمن في حياة الناس، ولو أن الشيعة في العراق قالوا إن قول الأمام علي جيد وسوف نعبد الله على هذه الطريقة لأكلهم الآخرون، والعكس بالعكس لاستيلاء حكم الدم، كما قال كاتب "الجولاغ" (الكسندر سولشينين) الروسي في ذكرى الثورة الروسية بعد تسعين عاماً. وسوف يبقى البشر يخافون ويرغبون، ويطمعون أن يكدسوا من الأموال جبالاً ومن العسل أنهاراً ومن الخمر أدناناً، حتى يتحسن الجنس البشري تهذيباً، وفي تقديري سيكون ذلك من خلال العلم الذي سوف يفتح فهمنا لدماغ الإنسان ومصادر العدوانية فيه، ولربما أمكن من خلال جراحة الجينات أن يغير الإنسان بالتعاون مع البيداغوجيا، أي علم التربية، وهو ما اشتغل عليه الأنبياء عليهم السلام، فأنتجوا الإنسان الجديد، والملائكة شكّت في الرهان على الإنسان، ولم تر فيه إلا الكائن القاتل المخرب، فقالت يا رب "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟"، فكان جواب الرب "إني أعلم ما لا تعلمون". ونحن ما زلنا على ظن الملائكة، نأكل ونتغوط مثل الجراد، ونسافر مثل العصافير، وننطح مثل ثيران المصارعة الإسبانية، وننتف بعضنا مثل الديكة؟ حتى يأذن الله بخروج الإنسان الإنساني...