سمعنا كلام الجنرال بيترايوس، وكلام السفير كروكر، ويوم الخميس كلام الرئيس جورج بوش نفسه. غير أننا لم نسمع شيئاً هذا الأسبوع حول الواقع المأساوي للمواطنين العراقيين العاديين الذين يعانون أزمة إنسانية كارثية. ربما يكون الرئيس بوش غير واعٍ بهذا الأمر؛ فقد حذر في خطابه، الموجه إلى الأمة، من أن من شأن انسحاب للقوات الأميركية من العراق أن يتسبب في "كابوس إنساني". ولذلك، فعلى أحد مساعديه الموثوقين أن يجره جانباً ويخبره بهدوء بأن الكابوس قد حدث منذ بعض الوقت. عندما شنت الولايات المتحدة حملة "الصدمة والرعب" على العراق في مارس 2003، كان عدد سكان العراق يبلغ نحو 26 مليون نسمة. ومنذ ذاك الوقت أرغم الخوف والذعر 2.2 مليون عراقي، أي ما يعادل نحو عُشر السكان على الهرب من البلاد. الكثيرون ممن غادروا العراق مهنيون كانوا مهددين بخطر الموت -أطباء ومحامون وأكاديميون، أي الأشخاص الذين يتوفرون على المهارات الضرورية لبناء مجتمع ناجح. فقد أعلنت وزارة الصحة العمومية العراقية أن نحو 100 طبيب و160 ممرض وممرضة قتلوا خلال الفترة من أبريل 2003 إلى مايو 2006؛ كما يعتقد أن نصف أطباء العراق تقريباً هربوا. والواقع أن نزوح مهنيي الرعاية الطبية في بلد ينزف من أسوأ أشكال العنف لا يمكن إلا أن يصدقَ عليه نعتُ "الكارثي". ولئن كان أزيد من مليوني عراقي قد لجأوا إلى بلدان أخرى، فإن نحو مليوني عراقي آخرين نزحوا إلى مناطق أخرى داخل البلاد. وفي هذا السياق، يقول "منتدى السياسة العالمية"، وهي منظمة تراقب التطورات الدولية: "إن معظم هؤلاء الأشخاص الذين نزحوا من ديارهم إلى مناطق أخرى داخل العراق لجأوا إلى أقارب أو مساجد أو بنايات عمومية فارغة أو مخيمات. ويعيش هؤلاء النازحون أحوالاً مزرية جداً؛ فالبنايات العمومية مثلاً لا تستوفي الشروط الصحية، وكثيراً ما تستوعب أكثر من سعتها الحقيقية، وتفتقر إلى الماء الصالح للشرب أو الخدمات الأساسية، وكلها ظروف مواتية ومساعدة على انتشار الأمراض المعدية". هذا ويتحمل العراقيون معاناتهم بعيداً عن أنظار بقية العالم؛ إذ ترغم مستوياتُ العنف الجنونية منظماتِ الإغاثة الدولية ومعظم الإعلام على البقاء بعيداً. وإضافة إلى ذلك، يعد الافتقار إلى الماء الصالح للشرب مشكلة تعاني منها معظم مناطق البلاد. (وقد طُلب من منظمة الصحة العالمية أن تساعد وتساهم في مواجهة الانتشار الأخير لداء الكوليرا في بعض مناطق كردستان، والذي يعتقد أن سببه هو المياه الملوثة). أما المرافق الصحية، فمعطلة بسبب العنف والتخريب اللذين يحدثان بشكل روتيني. في حين ما زال الاقتصاد، وعلى غرار البنى التحتية في البلاد، في حالة يرثى لها. الجانب الأسوأ من جوانب هذا الكابوس بالطبع هو شبح الموت الذي يخيم على العراق منذ الغزو الأميركي. وإذا كانت معظم المحاولات الرامية إلى تقدير عدد الإصابات المدنية تثير سجالاً حاداً، فإنه لا أحد يطعن في حقيقة أن العدد صادم. وقد تصرفت الحكومة الأميركية كما لو أن الموتى العراقيين لا يستحقون حتى أن يحصوْا، وإن كان الرئيس بوش قد أشار في ديسمبر 2005 إلى "30 ألف تقريباً" باعتباره عدد العراقيين الذين قُتلوا في الحرب؛ ولكن البيت الأبيض أعلن لاحقاً أنه لا توجد تقديرات رسمية للوفيات العراقية. والواقع أنه استناداً إلى جميع الدلائل المتاحة، يبدو أنه من غير المعقول تصديق أن أقل من 100 ألف مدني عراقي قد قتلوا حتى الآن. وهو أمر يرجحه عدد من الباحثين الجادين الذين يعتقدون أن المجموع أعلى من ذلك بكثير. أما بالنسبة لعدد من جُرحوا أو أعيقوا من العراقيين –الرجال والنساء والأطفال الذين فقدوا أطرافاً أو تعرضوا للشلل أو أصيبوا بالعجز جراء القصف الجوي والهجمات بالقنابل والقذائف- فلا أحد يتوفر على معلومات وافية ودقيقة حول حجم المشكلة. وفي هذا الإطار، يقول جيمس بول، المدير التنفيذي لـ"منتدى السياسة العالمية"، الذي أعد مؤخراً تقريراً وافياً حول الحرب والاحتلال: "بالنظر إلى عدد الموتى وعدد النازحين فقط، يمكن القول إن هذه هي أكبر أزمة إنسانية في العالم اليوم"، مضيفاً: "إن هذه هي أكبر حركة نزوح للناس في الشرق الأوسط منذ وقت طويل". وعلاوة على ذلك، فإن المذابح والنزوح وتدهور مستوى الحياة اليومية تؤثر على الأطفال تأثيراً عميقاً جداً، ولاسيما أن الظروف كان مزرية بالنسبة للأطفال في العراق حتى قبل الحرب. حيث كان يتوفى واحد من كل ثمانية أطفال قبل سن الخامسة، وكثير منهم ماتوا بسبب مضاعفات سوء التغذية وتلوث المياه والظروف غير الصحية. والآن، وبعد أزيد من أربع سنوات على الغزو، تجد أعداد كبيرة من الأطفال العراقيين نفسها يتيمة ومشردة وتعاني سوء التغذية. وحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف"، فإن " الكثير من الأطفال ينفصلون عن أسرهم أو يعيشون في الشوارع، حيث يتعرضون أحياناً للاستغلال. ولئن كان معظم الأطفال يعانون تأثيرات نفسية، فإن قلة قليلة منهم فقط تتلقى العلاج والدعم الذي تحتاجه لمساعدتها على مواجهة كثير من الفوضى والقلق والخسارة". الواقع أن كل هذا ليس سوى القليل من أمور أعظم لن نسمع عنها شيئاً في كلام المسؤولين الأميركيين في واشنطن الذين يدعون العناية بشعب العراق. ـــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"