اندلعت في مصر منذ أسبوعين ونيف, معركة قلما ظهر لها مثيل في الصحافة العربية، على امتداد عقود طويلة، بل ربما منذ نشوء الصحافة في العصر الحديث عامة، وفي مصر على وجه الخصوص. فلقد عقدت محكمة في القاهرة، قُدمت إليها دعوى من الحزب الوطني الحاكم، ضد أربعة رؤساء تحرير لأربع صحف خاصة، وصدر الحكم الأولي بحبس هؤلاء، وكان ذلك بمثابة إشعال فتيل قد لا ينطفئ قريباً، حسبما قال هؤلاء وآخرون غيرهم من الصحفيين، في ندوات جرى بثها مؤخراً في الإعلام المنظور والمسموع عموماً. وكما فُهم الأمر، فإن من أسباب الحكم بالحبس على أربعة رؤساء تحرير لصحف خاصة، توجيه هؤلاء كتابات نقدية بحق مؤسسات سياسية وتنفيذية وتشريعية، وكذلك بحق نجل الرئيس المصري السيد جمال مبارك. وللحظة الأولى، يعتقد المرء أن وراء ذلك أسباباً قد تقارب الخيانة الوطنية، لأن المطالبة بحبس أربعة رؤساء تحرير يمثلون -كما يُعلن عنهم- رموزاً وطنية بارزة في حركة الصحافة المصرية العريقة. ومع متابعة الحيثيات المقدمة ضدهم من قيادات في الحزب الوطني، تتسع الدهشة حيال هذه الحيثيات أو معظمها القائم على أن الصحفيين الأربعة لم يستخدموا -بوصفهم صحفيين- غير ما يستخدمه الصحفي، أي الكتابة الناقدة في شأنٍ أو آخر من شؤون المجتمع المصري (أو العربي أو الإقليمي والدولي). ولعل ذلك يتضح، حين ننبّه إلى وظيفتين اثنتين من وظائف الصحفي. فالأولى منهما أنه يستخدم قلمه وورقه وما يدخل في هذا القبيل. أما الوظيفة الثانية فتفصح عن نفسها في الوجهة النقدية الهادفة والبنّاءة، التي تسلكها كتاباته الصحفية. ومن ثم، لا سلاح مادياً في يدي الصحفي أولاً، ولا توجيه آخر فيما يكتب هذا غير ما يُمليه عليه ضميره الوطني والمجتمعي والمهني ثانياً. ولما كان العمل الصحفي خاضعاً -بكيفية أيديولوجية خفية كثيراً أو قليلاً- لتعددية الرؤية لمشكلات المجتمع ولآفاق تحولاته القريبة والاستراتيجية وربما كذلك للأدوات المنهجية المطبّقة في العمل المذكور، فقد كان واضحاً للمشرِّع الإعلامي أن الخصيصة الكبرى والحاسمة لذلك العمل، إنما هي كونه قائماً على التعددية في الرؤى ووجهات النظر أولاً، وكونه مؤسساً -بالاعتبار المعرفي السياسي- على حرية التعبير وعلى قدسية هذه الحرية ثانياً. من هنا، جاءت المقولة المركزية المتعلقة بمشروع أو بمشاريع الإصلاحات في المجتمعات العربية، لتؤكد على أن دولة وطنية ديمقراطية ما تعني، أولاً بأول، وجود قانون ديمقراطي وعصري للإعلام عموماً وللصحافة المقروءة على وجه الخصوص. وهذا ما دفع باحثين في الصحافة وصحفيين وسياسيين للقول إننا إذا خُيّرنا بين دولة دون صحافة حرة وبين صحافة حرة، فإن الخيار يقع على هذه الصحافة، ذلك لأن دولة من ذلك النمط، يمكن أن تتحول إلى ما سماه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، وهو The Great Leviatnan (التنين الجبار)، الذي بصفته الدولة من حقه أن يلتهم في جوفه كل الأفراد والتجمعات، وينهي كل محاولات النقد والاعتراض وغيره. ومعروف أن الفيلسوف الفرنسي "روسو" قدم مفهوم "العقد الاجتماعي"، الذي يعبر عن تعاقد الأفراد فيما بينهم على نحو قاد إلى تأسيس الدولة كثمرة لهذا التعاقد. ثم يأتي "ماركس" ليكتشف الطابع الطبقي للدولة ووظائفها، إلى جانب كونها تعبيراً عن إرادة المجتمع في ضبط شؤونه عبر ضابط ناظم هو الدولة. التصور المهيمن في معظم التكوُّنات الدولتية العربية قائم على النموذج الهوبْزي، الذي أثبت قدرته على التحول إلى "دول أمنية" يُلغى فيه المجتمع المدني والمجتمع السياسي بل والمجتمع العمومي، لتبقى الدولة ذات الإرادة الوحيدة سيدة للموقف. ففي هذه الحال، تهيمن مجموعة من الإجراءات والقوانين ذات الطابع الاستثنائي، مثل قانون الطوارئ والأحكام العرفية، الذي يعني تغييباً لقوانين ديمقراطية عصرية في الحياة العامة، وربطاً لهذه الأخيرة بمصائر الدولة "التِّنينية-الأمنية". إن غياباً (ولا نقول الآن) تغييباً لقوانين ديمقراطية ناظمة للإعلام العربي ومن ضمنه الصحافة، يمثل -في صيغته التطبيقية القائمة- محاصرة للمجتمع ضمن بوتقة مغلقة تحوّله إلى كائن مترهل هزيل لا يقوى على استنباط أجوبة على ما لا يحصى من مشكلاته داخلاً وخارجاً. وحين يهزُل الداخل أو الدواخل العربية وتفقد حيويتها التاريخية، فإنها تكون قد أصبحت برسم الاختراق والهشاشة والتفكيك، وحينئد تفقد هذه الدواخل حتى إمكانية الحلم بالمستقبل.