تشهد أسواق العالم موجة غلاء نادرة ارتفعت فيها أسعار مختلف السلع والخدمات بصورة كبيرة، مما أثر على القدرات الشرائية والادخار في مختلف بلدان العالم، والتي تعاملت مع هذه الموجة بطرق وأساليب مختلفة. هناك قضيتان رئيسيتان في هذا الجانب، الأولى تتعلق بإجراءات آنية للحد من ارتفاع الأسعار، في حين تتعلق الأخرى بنظرة بعيدة ذات علاقة باعادة النظر في بعض التوجهات الاقتصادية والنقدية، والتي يمكن أن تساهم في التخفيف من هذه الظاهرة في المستقبل. البلدان الغنية عمدت إلى زيادة الرواتب والأجور، والتي غطت جزءاً من التكاليف الإضافية التي تحملها المستهلك، في الوقت الذي حاولت فيه البلدان الفقيرة، والتي تعرضت لبعض الهزات الاجتماعية دعم بعض السلع الأساسية لتوفيرها للغالبية العظمى من المستهلكين بأسعار مناسبة. أسباب موجة الغلاء هذه عديدة، إلا أن أهمها يكمن في ارتفاع أسعار الطاقة، وبالتالي السلع المصنعة والانخفاض الحاد في سعر صرف الدولار الأميركي الذي ترتبط به عملات بلدان عديدة وارتفاع أسعار العقارات وتنامي الطلب على مختلف السلع والخدمات بسبب الزيادة السكانية، وبالأخص في البلدان النامية، بالإضافة إلى المضاربات واستغلال الفرص بسبب اختلال العرض والطلب في الأسواق. في الأسبوع الماضي قرر مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي تخفيض أسعار الفائدة بنسبة نصف نقطة لتصل إلى 4.75%، وذلك رداً على أزمة الرهونات العقارية، التي كادت تعصف بالنظام المالي العالمي، لو لم يتم تداركها في الوقت المناسب، حيث لا زالت انعكاساتها قائمة، مما دفع ببنك الاحتياط الفيدرالي لاتخاذ هذا الإجراء، والذي سيزيد من الضغوط التضخمية وارتفاع الأسعار. هذه الخطوة تتناسب والأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة، إذ أنها ستساهم في إنعاش الاقتصاد وتجنب الوقوع في حالة الركود، إضافة إلى التخفيف من أزمة الرهونات العقارية، إلا أن الإقبال على القروض والذي تتيحه هذه الخطوة سيؤدي إلى ارتفاع الطلب والأسعار بنسب كبيرة، كما أنه سيؤدي إلى المزيد من التراجع في سعر العملة الأميركية. العملات المرتبطة بالدولار ستنخفض أسعار صرفها تجاه العملات الرئيسية الأخرى في العالم وسترتفع قيمة وارداتها من خارج منطقة الدولار، وهو عامل رئيسي للتضخم، في الوقت الذي لا تستطيع فيه هذه البلدان رفع سعر الفائدة للتخفيف من نسب التضخم، بل على العكس سوف تضطر إلى مجاراة بنك الاحتياطي الفيدرالي وتخفض أسعار الفائدة، وهو ما حدث بالفعل، وذلك لأسباب فنية بحته تتطلبها عملية الربط بين العملتين. القضية الرئيسية، هي أن الظروف الاقتصادية في هذه البلدان تتطلب اتخاذ خطوة معاكسة تماماً تؤدي إلى زيادة أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم وارتفاع الأسعار، والتي يمكن أن تصل إلى مستويات قياسية جديدة. من هنا تأتي المعالجة بعيدة المدى لظاهرة الغلاء، فالإجراءات النقدية من الضرورة أن ترتبط بالأوضاع الاقتصادية وتستخدم كأداة مهمة لتوجيه العديد من الظواهر الاقتصادية، وبالأخص التحكم في ظاهرة التضخم. الارتباط بعملة واحدة له جوانب إيجابية وسلبية، إلا أنه يعرض العملة المحلية لتقلبات حادة ويوجد حالة من الانفصال ما بين الاجراءات النقدية والأوضاع الاقتصادية، وبالتالي يفقد البنوك المركزية والهيئات المالية أداة قوية وفعالة تستطيع من خلالها إدارة الأوضاع النقدية والمالية بصورة تتناسب ومتطلبات المستجدات الاقتصادية. من خلال ذلك يمكن الاستنتاج أن الارتباط بسلة عملات، يتيح مرونة أكبر للتحكم في الإجراءات النقدية والمالية، بما في ذلك أسعار الفائدة واستخدامها كإحدى الأدوات للتخفيف من نسب ارتفاع الأسعار، والتي ترجع لعوامل عديدة، يأتي في مقدمتها تراجع صرف العملات المحلية. هناك تكلفة لعملية التحول هذه، إلا أن هناك مكاسب أيضاً تتعدى هذه التكلفة وتتيح للبنوك المركزية والسلطات المالية مرونة أكبر، مما سيساهم في استقرار الأوضاع الاقتصادية وزيادة معدلات النمو والحد من نسب التضخم وارتفاع في الأسعار.