من لطائف التدريس الجامعي التعرف على المقولات الشائعة في علم السياسة بدون فهم أو تبصر عقلاني لدى الطلبة. ولعل من أشهر هذه المقولات المبدأ الشهير الذي وضعه المفكر العظيم نيقولا ميكافيللي: "الغاية تبرر الوسيلة". وحين تسأل الطلبة عن مفهوم هذا المبدأ، يردِّدُون بدون تفكير المحتوى اللاأخلاقي لهذا المبدأ. وتسألهم: هل قرأتم حول الموضوع؟ طبعاً تكون الإجابة بالنفي، لأن الإنسان العربي عموماً يعتمد الثقافة الشفهية, والتي غالباً ما تكون خاطئة أو ناقصة في أحسن الأحوال. ولعل الخطأ العام في التصور اللاأخلاقي لهذا المبدأ كونه يضع الفرد والدولة في مستوى واحد، وهو يخالف مفهوم ميكافيللي بشكل غير علمي، ذلك أن الحديث حول هذا المبدأ لا علاقة له بالفرد، بل بالدولة. وبناء على هذا المبدأ يقرر ميكافيللي أن للدولة قيماً ومفاهيم خاصة بها، لا علاقة لها بالأخلاق أو الدين. وأن من واجب "الأمير" توفير كل الجهد، واتباع كل الوسائل بغض النظر عن مدى أخلاقيتها من عدمه لدى الأفراد، لحماية الدولة وحماية المواطنين. ذلك أن قيم ومفاهيم الدولة المتصلة بطبيعة الوسائل المستخدمة تختلف اختلافاً كليّاً عن قيم ومفاهيم الإنسان العادي. ففي مجال إدارة الدولة وحفظها وأمن مواطنيها لا يعود هناك موضع للمفاهيم الأخلاقية العادية التي يتعامل معها الإنسان العادي في حياته اليومية، بل تكون الكلمة الفصل للنتيجة التي تتحقق مادياً، وبالتالي فإن كل وسيلة تستخدمها الدولة للحفاظ على أمن الدولة والمواطنين, تُعد وسيلة مقبولة أخلاقياً، وإن لم يعترف الإنسان بأخلاقياتها، لأن معايير تقدير الدولة للأمور من خلال صنع القرار، تختلف عن معايير الأفراد, وترتب على هذه التفرقة أن أنه يحق للدولة فيما يخص استخدام الوسائل اللازمة لتحقيق الهدف، ما لا يحق للأفراد, نظراً لاختلاف نظرة صانع القرار للأحداث وكيفية التعامل معها، عن نظرة الأفراد التي غالباً ما تتعدى النظرة الزمنية والمصلحة الضيقة. ولنأخذ مثلاً موضوع الضرائب. ففي حين يسعى الأفراد إلى تخفيضها إلى الحد الأدنى لكي يتمتعوا بدخلهم النقدي، تسعى الدولة لفرض ضرائب متعددة وعالية وذلك بهدف تقديم الخدمات العامة للجميع، ومن ثمّ لن تهتم الدولة بالضرر الذي يصيب الأفراد إذا كان ذلك في صالح الدولة والمجتمع. وكذلك الأمر في شؤون الحرب، حيث تضطر الدولة إليها حفاظاً على مقتضيات الأمن الاجتماعي الداخلي والخارجي، في حين ينظر إليها الأفراد من زاوية المصلحة الخاصة حيث يرون أن الحرب ستُفقدهم عزيزاً على قلوبهم. وغالباً ما تفرح الشعوب بالحرب إذا حدث الانتصار، وتطالب بإيقافها إذا وجدت نفسها خاسرة. فالأميركيون فرحوا بتحرير الكويت، لأن هذه العملية خلصتهم من عقدة فيتنام، وأبرزت صورة الإنسان الأميركي المُحب للشعوب والساعي لنصرة المظلومين. ولكن اختلف الأمر في العراق، لأنهم وجدوا بعد سنوات من تحرير العراق، أن قضية العراق الديمقراطي وهْم، ولا معنى لها في ظل موت الجنود الأميركيين في حرب الشوارع العراقية. وبالتالي أخذوا يتظاهرون ضد الحرب والمطالبة بعودة أبنائهم، ولا لوم عليهم في ذلك، لكن حسابات البيت الأبيض تختلف تماماً عن حسابات الأفراد من الناحية الاستراتيجية. ولو كان رئيس الدولة يفكر بنفس طريقة التفكير، لما وضعت الاستراتيجيات العسكرية والتدخل في شؤون العالم. المفكر العظيم، ميكافيللي يقرر في كتابه "الأمير"، أن محبة الناس للحاكم ليست مهمة، بل المهمة الحقيقية لـ"الأمير" هي الحفاظ على أمن واستقلال الدولة، بكل الوسائل، وهو أمر لا يستطيع الأفراد تقبُّله عقلياً ووجدانياً، لأن المعايير المستخدمة لدى كل طرف ليست هي ذاتها، ومن ثم ترى الحكومة ما لا تراه الشعوب.