هناك العديد من المظاهر التي تجعل من شهر رمضان المبارك ذا خصوصية ثقافية فريدة في دولة الإمارات، وفي مقدّمة هذه المظاهر التي باتت سمة مميزة لليالي الشهر الكريم في الإمارات، المجالس الرمضانية، التي تحوّلت بالفعل إلى منتديات فكرية تلتئم بحضور القيادات والمسؤولين والنخب الثقافية والسياسية والدينية وقادة الرأي والفكر لتناقش قضايا مجتمعية ملحّة في أجواء من الودّ والصراحة والمكاشفة، بحيث تحوّلت هذه المجالس إلى برلمانات شعبية تتمتّع بسقف عالٍ من الحريّات وتمتلك من الخصائص والمزايا ما يضفي عليها قدراً هائلاً من الخصوصية الثقافية والنضج الفكري. ويبدو من خلال متابعة وسائل الإعلام المحلية للعديد من المجالس الرمضانية أن هناك حضوراً طاغياً لقضايا المجتمع في مختلف المجالات، وربما يكون ذلك أمراً طبيعياً في ظلّ حضور طيف متفاوت المشارب والتوجّهات والاهتمامات من المسؤولين والشخصيات العامة ورجال الرأي والفكر والجمهور، ولكن المؤكد أن هذه المجالس تلعب دوراً غير منظور في تكريس ثقافة الشفافية والحوار والممارسة الديمقراطية، باعتبارها نمطاً متوارثاً من أنماط الخصوصية الخليجية على هذا الصعيد. الملاحظ أيضاً أن النقد الذاتي وسقف الحريات المتاح في نقاشات هذه المجالس يجعل منها بالفعل منبراً لقياس نبض المجتمع المحلي، والتعرّف إلى توجّهاته حيال مختلف القضايا والموضوعات المثارة على الساحة؛ ولعلّ القراءة المتأنية لأمثلة من التغطيات الصحفية لهذه المجالس، تشير إلى ذلك بوضوح، فهناك نقاشات حول التوطين وسبل تفعيل الخطط والسياسات والقرارات في هذا المجال، وهناك نقاشات حول خلل التركيبة السكانية وتنامي "ظاهرة الفقر" محلياً في ظل ارتفاع الأسعار وتوالي موجات الغلاء وارتفاع معدّلات التضخّم، وهناك نقاشات أخرى حول دور القطاع الخاص في العمل التطوّعي؛ ورغم أن هناك ميلاً نسبياً إلى "التخصّصية" في طرح الموضوعات وفقاً لدوائر اهتمام وخبرات المشاركين في هذه المجالس أو أغلبهم، فإن الواضح أن الغلاء كان القاسم المشترك الذي طغى على كثير من نقاشات المجالس الرمضانية في انعكاس واضح لمدى طغيان هذا الموضوع على اهتمامات المجتمع بشكل عام. الأمر المؤكد أن هذه المجالس تلعب دوراً إيجابياً غير مباشر في إثراء تجربة المشاركة السياسية التي دارت عجلاتها بالفعل بانتخاب نصف أعضاء المجلس الوطني الاتحادي، كما أنها تلعب دوراً موازياً في التنشئة السياسية والتواصل بين الأجيال ونقل الخبرات، وتمتين النسيج الاجتماعي والحفاظ على الهوية المحلية، فضلاً عن تنشيط الحياة الثقافية والفكرية وإثرائها، وتنمية الوعي السياسي والحسّ الوطني وتعزيز قيم الولاء للأرض والوطن بما تثيره وتناقشه من هموم مجتمعية تشغل بال الجميع. وإذا كان الملاحظ أن هناك توجّهاً حميداً من خلال التزايد الملحوظ في المجالس الرمضانية عاماً بعد آخر، وأن هناك اتجاهاً تلقائياً غير رسمي لـ"مأسسة" هذه المجالس سواء في اختيار موضوعات النقاش أو إدارة الحوارات، فإن ما تفرزه من أفكار ومقترحات عديدة لمواجهة بعض الإشكاليات المجتمعية، والتعاطي مع التحدّيات التنموية الراهنة والمستقبلية، يحتاج ذلك كله بالفعل إلى آلية ما لاحتضان الكثير من هذه المقترحات والأفكار والرؤى وتوظيفها بما يسهم في حل الإشكاليات وتطوير الخدمات وتعزيز كفاءة الأداء في مختلف قطاعات العمل بالدولة، بحيث يتعاظم مردود هذه المجالس وتتحوّل إلى بوتقة حقيقية لصهر أفكار المجتمع، ورافد حيوي لبقية مؤسسات الدولة في تقديم المشورة والرأي والمقترحات التي تحتاجها دوائر صناعة القرار ورسم السياسات على مختلف المستويات وفي مختلف القطاعات. ـــــــــــــــــــ عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية