تناولنا من قبل وضع "دارفور" في منطقة الصراع الإقليمي الكبير في وسط وغرب أفريقيا، وقلنا إنه لا ينقذها إلا وجود قوة إقليمية حقيقية جديرة بهذا الاسم، وإنه لا يتوفر لها ذلك الآن بسبب ضعف الدور المصري من جهة، وعدم توفر عناصر الدور الإقليمي لليبيا من جهة أخرى، كما أن الموقف في السودان نفسه لا يساعد في ترتيب تحالفات داخلية أو خارجية تجعل من اليسير تشكيل قوة إقليمية بين مجموعة دول المنطقة، ذات توجه استقلالي، حيث الثروة والسلطة والتمردات في السودان مشتتة! وفي مثل هذه الأجواء، صعُبَ استنهاض روح تعاون عربي- أفريقي ليشكل مظلة لهذه الروح الإقليمية المنشودة، خاصة وأن مراكز القوى الإقليمية الأخرى المحيطة بمسرح الأحداث غير قابلة الآن للاستنهاض لسبب أو لآخر (مصر/ الجزائر في الشمال - نيجيريا، جنوب أفريقيا في الغرب والجنوب). بالمثل بات الحديث عن استقرار إقليمي في منطقة القرن الأفريقي أشد صعوبة من أية لحظة أخرى، وهنا أيضاً يجد التعاون العربي- الأفريقي نفسه في المأزق ذاته، فالصومال حاله أشد وطأة من السودان في مجال انهيار الدولة، والتدخلات تبدو أكثر فجاجة في الصومال بالغزو الإثيوبي المدعوم أميركياً، خلافاً لتهديدات "القوات الدولية" في السودان والقوى الإقليمية العربية أكثر تجاهلاً للحدث، وأكثر ضعفاً في مواجهته (حالة مصر). وتطل السعودية بين فترة وأخرى على الموقف كما في نتائج اجتماعات "ناس دارفور" في مكة منذ عدة شهور، وتبدو الآن في اجتماعات "ناس مقديشو". في هذه الأجواء أيضاً تدخل "أريتريا" على الخط، في محاولة غير مؤهلة إلا بالاعتبارات المحلية، وتساؤلات عن ترابطات خليجية أخرى أو أوروبية، لكنها تملك السبب الوجيه الواضح أمامنا حول رغبتها في شل حركة إثيوبيا وتوسعاتها في الإقليم، في الوقت الذي ترفض فيه إثيوبيا الانسحاب من منطقة الحدود المقدسة في "باديمي"... وستبقى "أريتريا" معوقاً كبيراً أمام طموح إثيوبيا للعب دور إقليمي ولو مكشوف لصالح الولايات المتحدة، وهذا الانكشاف نفسه لا يجعل إثيوبيا صالحة لدور إقليمي بارز، حيث يحتاج الدور الإقليمي البارز دائماً لغطاء استقلالي بقدر أو بآخر. والحكم الإثيوبي يقدم جنوده ضحايا في الصومال، من أجل إرضاء القوة الدولية الكبرى، التي قد تحمي تعنته على الحدود مع أريتريا، أو تحميه من ضغط المعارضة من الخارج والداخل والتمردات القائمة في أقاليم كـ"الأوجادين" و"أورومو"... ورغم المساعدات المالية الغربية الكبيرة، وليست الاستثمارية النافعة لاثيوبيا فإن الغربيين لم يشاءوا حمايتها من تجمعات المعارضة القابعة في واشنطن نفسها إلى جانب دعم أريتريا لها بالتأكيد. وإذا كان الدستور الإثيوبي يعطي حق تقرير المصير للأقاليم حتى "الانفصال"، فإن إثيوبيا رغم قوتها تصبح بذلك رخوة أمام أريتريا - متواضعة القوة، والتي تملك حق دعم "المطالب الشعبية الشرعية" حسب تعبيرات الرئيس الأريتري مؤخراً. وأريتريا التي استقرت علاقتها مع السودان باتفاق أبناء شرق السودان في "أسمرا"، تقدم نفسها كنموذج يمتلك قدرات تصالحية، حيث استضافت مؤخراً مؤتمراً قوياً للصوماليين، ضم عدداً من الفصائل في مقدمتها ممثلو المحاكم الشرقية باسم مؤتمر إعادة تحرير الصومال، الذي انتهى بتشكيل المجلس المركزي لإعادة بناء الصومال (6 - 12 سبتمبر 2007)، وقد ضم خلافاً لمؤتمر مكة وجوها إضافية أكثر من خارج الدائرة الإسلامية (عسكريين ومثقفين وسياسيين قدامى)، وتجنب المؤتمر إبراز حجم "الجنرال عويسي" المتهم على قائمة الإرهاب الأميركية. ويبدو أن نجاح ترتيبات هذا المؤتمر، هي التي جعلت السيدة "فريزر" مساعدة الوزير الأميركية تعلن بوادر الحملة عن إعلان "أريتريا مارقة" داعمة للإرهاب... ليس الظرف ناضجاً بالطبع لتعاون أريتري- مصري إزاء اعتبارات إثيوبية مائية تحكم مصر في هذه الفترة، التي تناقش فيها اتفاقيات مياه النيل بين دول الحوض، كما أن أحداً لم يؤسس لقاعدة تحالف ما بين "دول البحر الأحمر" كمنطقة إقليمية. وهي مؤهلة لذلك لو قام تعاون عربي يضم اليمن والسعودية ومصر... الخ. في جو هذه الفوضى الإقليمية، يسعد دبلوماسيو الولايات المتحدة أصحاب نظرية الفوضى البناءة! ففي غياب أي معيار ناظم لوجود أية قوة إقليمية قادرة على إعادة ترتيبات القرن الأفريقي، أو المشرق العربي، وهما من أكبر مواقع المصالح الأميركية حالياً، تستطيع الولايات المتحدة وأوروبا أن تتجاهل المخالفات الدولية التي تحمل تناقضاتهما الصارخة، ففي ظل احتياجهما للدور الإثيوبي تتجاهلان حكم محكمة العدل الدولية على إثيوبيا بالانسحاب وتحويل القضية إلى الأمم المتحدة للنظر في مخالفة إثيوبيا، كما لا يحاط هذا التجاهل بأي قدر من الضجيج، بينما الضجة عاتية- مثلاً- على الحكومة السودانية لتطبيق قرار المحكمة الدولية حول إدانة اختراقات حقوق الإنسان! وبالمثل يجري التغاضي عن غزو إثيوبيا للصومال في ظل حكومة تقررت شرعيتها خارج البلاد (في نيروبي)، ولم تستطع دخول العاصمة مقديشو، بينما كانت هناك حكومة قائمة بالجهد الشعبي، مهما كان رأينا في نظام المحاكم الشرعية نفسه، إلا أنها كانت أكثر "شرعية" من الناحية الواقعية على الأقل... مثل هذه التناقضات الأميركية، ذات الطابع القانوني والدستوري والدولي تضعها- مثل الحال في فلسطين والعراق- أمام تعقيدات كبيرة في ترتيبها للأوضاع الدولية كدولة كبرى مسؤولة مهما كان الرأي في ضغط مصالحها على هذه الترتيبات. وأي مفكر سياسي من نوع العباقرة الذين صاغوا لها صراع الحضارات ونهاية التاريخ والفوضى البناءة، لابد أن يكون قد عاود التفكير في شرعية دور القوى الإقليمية في عصر العولمة، فهي قد تتصارع حول المفهوم وأبعاده الاستقلالية أو التابعة... ولكن سيحكمنا العقل على الأقل!