رأينا في المقال السابق كيف أن الإيمان، في القرآن، يقبل الزيادة والنقصان: يزداد عندما يقترن بصالح الأعمال وتَجَنُّب الفاسد منها، ويضعف بالشك والارتياب وعدم اقترانه بالطاعات. أما الإسلام، فهو كما قلنا مجرد الإقرار باللسان، وهو ما يعبَّر عنه بـ"النطق بالشهادتين" (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله)، وبالتالي فهو لا يوصَف لا بالزيادة ولا بالنقصان، إلا عندما يكون نفاقاً. وهذا الذي قلناه عن الإيمان وقبوله الزيادة والنقصان يطرح مسألة كانت وما تزال موضوع خلاف بين المذاهب الإسلامية: هل الإيمان هو فقط "التصديق بالقلب"، أم أنه التصديق والطاعة معاً. سنقتصر هنا كما فعلنا في الفقرات السابقة على ما يفهم من القرآن في هذه المسألة، فنقول: يكاد لا يذكر الإيمان في القرآن إلا وذكر معه العمل الصالح، وعبارة الذين "آمنوا وعملوا الصالحات" تتكرر في القرآن بصورة لافتة وذلك إلى درجة تحمل على الاعتقاد بأن الإيمان وحده لا يكفي، وأن العمل الصالح شرط في كماله، أو على الأقل في استحقاق ثمراته يوم القيامة. وكذلك الشأن في عبارة "الذين آمنوا واتقوا" (ابتعدوا عما ينهى عنه الله). وإذا نحن حاولنا استقصاء الأماكن التي ذكر فيها الإيمان في القرآن لوجدناه يقرن دوماً بالعمل الصالح (إتيان الفضائل) أو بالتقوى (تجنب الرذائل)، في كل مرة يذكر في سياق استحقاق الثواب في الدنيا كما في الآخرة. من ذلك قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (لقمان 8- 9). كيف نفهم هذا الاقتران بين الإيمان والعمل الصالح من جهة، والإيمان والتقوى من جهة ثانية؟ بالرجوع إلى القرآن مرة أخرى نتبين أن نقيض الإيمان هو الكفر الذي يعني عدم الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وأن الكافر، بهذا المعنى، إذا لم تبلغه رسالة نبي، لا يناله جزاء الكفر الذي هو العذاب. يقول تعالى: "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (الإسراء 15). فإذا بلغته دعوة رسول وكذَّب بها ورفض الاستجابة لها فحينئذ يستحق العذاب. أما إذا آمن وصدق بها، دون القيام بما تطرحه من فرائض وحثٍّ على التقوى والعمل الصالح، فإيمانه يخرجه من دائرة الكفر، ولكنه لا ينال ثواب الإيمان إلا بهذين: التقوى والعمل الصالح. وقد جمع القرآن بين الأمرين في لفظ واحدٍ فقال: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (المائدة 2). ذلك هو معنى التقوى عند المفسِّرين والأصوليين والفقهاء، ويضيف "المتصوفة السُّنيون" معنى آخر يرتفعون فيه بالتقوى إلى مستوى "الورَع"؛ فالمحاسبي، مثلاً، يميز في مفهوم التقوى بين مستويين: مستوى العبادة الظاهرة ومجالها "الجوارح" (=الحواس، البدن)، وحقيقتها على هذا المستوى "القيام بالحق وترك المعاصي". ومستوى العبادة الباطنة ومجالها "الضمير" وحقيقتها "إرادة الدَّيان (أي اتجاه المؤمن بإرادته إلى الله) في الفرض، بإخلاص العمل له في النفل: بالبكاء والأحزان والصلاة والصيام وجميع أعمال الطاعات مما ندب الله عز وجل إليها عباده ولم يفترضها عليهم رأفة بهم ورحمة لهم" وذلك هو الورَع. تحدثنا عن الإيمان في علاقته مع المفاهيم المتصلة بمضمونه (ماهيته، الزيادة فيه والنقصان، الإسلام، الكفر، الارتداد، الثواب والعقاب...)، ويبقى علينا أن نقول في الوسيلة التي يحصل بها. فإذا كان الإيمان هو "التصديق" بما جاءت به الرسل فما الذي يحمل الإنسان على هذا التصديق؟ بالنسبة لليهودية والمسيحية يمكن القول إن الوسيلة الأساسية، إن لم تكن الوحيدة، التي استعملها كل من موسى وعيسى، عليهما السلام، لحمل الناس على الإيمان برسالتهما هي المعجزات: وهي لموسى عشر "آيات" على رأسها "قلب العصا ثعباناً"، أما بالنسبة للمسيح فجُملة خوارق منها: إحياء الموتى وإبراء الأَكْمَه وَالأَبْرَص... الخ. ومع أن التوراة والإنجيل يعْليان من شأن التعقل ويدعوان إلى استعمال العقل، فإن غياب المعجزات والخوارق في الدعوة المحمدية واقتصارها على مخاطبة العقل وحده يفرض نفسه كظاهرة فارقة بين الإسلام من جهة وكل من اليهودية والمسيحية من جهة أخرى. ذلك أن خصوم الدعوة المحمدية من قريش قد طالبوا محمداً عليه الصلاة والسلام، مرات عديدة، بالإتيان بـ"آيات" معجزات على غرار ما أتى به الأنبياء السابقون حتى يصدِّقوا أنه مبعوث من الله فعلاً. لكن الجواب كان دائماً رفض هذا التحدي. من ذلك قوله تعالى: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ" (الإسراء 59)، ثم يشير إلى أن معجزات الأنبياء الخارقة للعادة لم يكن الغرض منها إقرار حقائق لذاتها وإنما هي من أجل "التخويف" وبالتالي حمْل الناس على الانقياد للرسل، كما في قوله تعالى في الآية السابقة: "وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفاً" (الإسراء 59). وفي آيات أخرى كثيرة يحيل القرآن المطالبين بالمعجزات إلى "كتاب الطبيعة" طالباً منهم تدبُّره واستخلاص العبْرة منه: "إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ" (الجاثية3- 6). وبالإضافة إلى كتاب الطبيعة هناك "كتاب التاريخ"، تاريخ الأنبياء والرسل مع أقوامهم: "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا، وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (الروم 9). وفضلاً عن شهادة الطبيعة وشهادة التاريخ يلفت القرآن نظر مجادليه من المشركين إلى "الكتاب" الذي نزَّله الله على محمد صلى الله عليه وسلم -أي القرآن- فهو وحده يكفي لإقناع من يريد أن يقتنع: "وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (العنكبوت 50-51)، ثم يتحداهم أن يأتوا بشيء مثله: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (يونس 38). نظام الكون، ودروس قصص الأنبياء، وبيان القرآن عناصر متساوية متكاملة من حيث الدلالة: نظام الكون دليل وجود الله ودليل وحدانيته، وقصص الأنبياء دليل قوته ورحمته وانتقامه، وبيان القرآن دليل نبوة محمد ودليل صدق رسالته، وهده الأصناف الثلاثة من الأدلة تؤسس بارتباطها ما نطلق عليه "المعقول" الديني العربي، ضداً على اللامعقول "العقلي" الذي يعني، على مستوى الخطاب القرآني الشرْك بالله، وإنكار البعث، والتكذيب برسالة محمد عليه الصلاة والسلام. والسؤال الآن: كيف يتحدد "العقل" في القرآن؟ اسم "العقل" لم يذكر في القرآن قط، ولكن فعل "عقَلَ" في الماضي والمضارع وفي صيغة اسم الفاعل مذكور بكثرة، خصوصاً صيغة المضارع التي تفيد "بيان الحال". ومع تنوع الصياغة والسياقات فإن مادة "ع. ق. ل" في القرآن ثابتة المعنى بحيث يمكن القول إن مفهوم العقل في القرآن يشير: - إما إلى "القوة المتهيِّئة (في النفس) لقبول العلم"، ويعبر عنها في الاصطلاح الكلامي والفقهي بـ"العقل الفطري" أو الموهوب، أو الغريزي أو التمييزي، وفي اصطلاح الفلاسفة "العقل بالقوة" أو الهيولاني أو المنفعل... - وإما إلى "العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة"، ويعبر عنه في الاصطلاح بـ"العقل المكتسَب" أو "التجريبي". وهكذا فصيغة المضارع (يعقلون، تعقلون، نعقل...)، التي تتردد في القرآن بكثرة، وفي الغالب في معرض ذكر الكفار والمشركين والمنافقين، وكذلك صيغة الماضي مثل قوله (يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" (البقرة 75) تشير إلى المعنى الثاني، أعني "العقل المكتسب"، بينما ينصرف معنى "العقل" في مجال التكليف بالمعنى الشرعي إلى المعنى الأول: العقل الفطري أو التمييزي... ومعلوم أن من شروط التكليف في الإسلام: العقل والبلوغ. بصفة عامة يمكن القول إن مفهوم "العقل" في الاصطلاح الإسلامي ينصرف معناه، في مجال العقيدة إلى العقل المكتسب (من تأمل نظام الكون... الخ)، وفقدانه أو ضعفه ليس أمراً طبيعياً بل هو من نتيجة فقدان الرغبة في طلب المعرفة. أما في مجال التكليف الشرعي فيشير إلى القوة النفسية أو الملَكة العقلية -لا فرق- التي ينفصل بها الإنسان عن الحيوان، وهي المقصودة في تعريف الإنسان بأنه "حيوان عاقل". فالحاصل على هذه "الملكة" مكلف -عند البلوغ- بالقيام بالواجبات الشرعية، أما فاقدها كالطفل غير البالغ أو المجنون أو المعوَّق عقلياً... فلا تكليفَ عليه.