يقول الشاعر العربي القديم: وأصعب ما يلقى الفتى في زمانه إذا حل نجم السعد في برج نحسه إقامته في أرض من لا يــودُّه وصحبته من غير أبنــاء جنسه مع نهاية صيف هذا العام، وقبل دخول شهر رمضان المبارك، اختتمتُ رحلة طويلة مجزأة امتدت لأشهر، زرتُ فيها تقريباً جميع الدول العربية -عدا بعضها الخطر جداً- بالإضافة للدول الناطقة بالضاد، كان لي مرور على الدول الغربية المطلة على البحر الأبيض المتوسط والمجاورة بحراً لدولنا العربية. في الأسطر التالية من هذا المقال، ومقالات شهر رمضان المبارك الأخرى، سأعرض للقارئ الكريم مشاهداتي وانطباعاتي عن تلك البلدان. لن أتحدث عن الجبال والسهول والشواطئ، ولا عن المقاهي وأنواع الطعام، ولا عن المناطق ومراكز الثقافة أو دور اللهو، فكل تلك الأماكن أُشبعت أحاديث سلباً عنها أو إيجاباً؛ ولم تترك المحطات التلفزيونية عبر برامجها الوثائقية أو مشاهدات التسلية إضافةً لـمُضيف؛ وكُتب الأسفار والرحلات والمشاهدات تملأ رفوف المكتبات مما لا يترك شاردةً ولا واردة عن الانطباعات الأولية عن تلك الأماكن. ما أعنى به هنا: تلك الآهات والانكسارات والآمال المقموعة.. عن هذه التماسَّات البشرية المورثة فرحاً أو ترحاً.. حباً أو كراهيةً.. بغضاً أو أُلفاً. لنبدأ أولاً حيث تقيم الآلاف الكثيرة من أبناء جلدتنا في الدول الغربية، وخاصة المطلة على المتوسط. هؤلاء كوَّنوا مجتمعاتهم عبر هجرات قديمة، عندما بقي منهم مع من بقي بعد حملات التفتيش المسيحية القديمة وهم قلة، ومنهم من هاجر ورافق المحتل الفرنسي والإيطالي والإنجليزي بعد انتهاء عصور الاستعمار. وتلت ذلك هجرات واسعة لطلاب الرزق من المواطنين العرب الذين ضاقت بهم الأحوال السياسية والاقتصادية والإنسانية في بلدانهم، وفي تلك الهجرات المتأخرة تعرضوا إلى ابتزاز الناقلين لهم وإلى هجمات أسماك القرش إن لم تكن أمواج البحر، ومن وصل منهم إلى شواطئ الأمان قليل قياساً بمن أصبح طعاماً للأسماك المتعودة على اللحم العربي الـمُهان، وقياساً بمن وُجدت جثثهم الطافية على شواطئ الأسبان والإيطاليين واليونانيين ومعهم المالطيون. في تلك المجتمعات الأوروبية نشأت هذه الفسيفساء البشرية العربية، حاملة معها تقاليدها وعاداتها وقبل ذلك إسلامها الذي أصبح في السنوات الأخيرة فزَّاعةً مُخيفة للمجتمع الأوروبي المليء بالهواجس من طغيان إسلامي على ميراثه وبيئته وثقافته المسيحية أو العلمانية. أصبح المهاجرون العرب بمختلف أسباب هجراتهم وتعاقب أزمانها، عُرضةً للبغضاء والكراهية من الأعراق والعنصر الآخر، وغذَّت ذلك كراهية مقابلة وخاصة في الشبيبة المسلمة العربية المهاجرة، التي ترى أنها فقدت هويتها ولم تستطع الاندماج في مجتمعات ما اعتقدت أنه الحلم الأوروبي وأمكنة الرفاه وحفظ حقوق الإنسان. وبدلاً من وصول الفريقين إلى قواسـم مشتركة، تبلورت من كلا الجانبين حركات مليئة بالبغض لما يمثله الآخر من دين وتراث وثقافة. سيطرت طرق ومناهج التفكير التكفيرية على شبيبة الإسلام والعروبة في بلدانهم الأوروبية الحاضنة، وجعلوا من (ابن لادن) و(الظواهري) محجتهم الفكرية والتعاملية مع المختلف، الذي كان أرحم عليهم مهما كانت المنغِّصات من بلدان قدم منها هؤلاء الشبيبة؛ بلدان الجذور القديمة التي تجعل من تربية اللحية جريمة، ومن التردد على المساجد تهمة، ومن جعل الإسلام طريقاً للتعامل مع الحياة ومن فيها مشروعاً للإرهاب والعنف. الجمعيات من بني جلدتنا وقعت فريسة لمخاوف ذوبان الهوية والأفكار السوداء، وبأن بلدان الكفار -كما يسمونها- تريد مسخهم واقتلاع موروثهم وتقاليدهم وما يعنيه دينهم من تفرد وطروحات لكيفية العيش في هذه الدنيا. الجانب الآخر المحتضن قابل ذلك بمزيدٍ من التشريعات الظالمة والأنظمة المانعة لكل رمزٍ ديني إسلامي.. من الحِجاب إلى بناء المساجد وطرق ذبح الأضاحي! منْ ساعد الدول الغربية في حروبها العالمية، الأولى والثانية..؟ ومَن جاء ليعمِّر ويكنس ويطبخ ويصلح مجارير الغرب بعد أن يُنهي مواسم قطف العنب من أشجار الكروم وجمع ثمار الزيتون؟ كل هؤلاء أصبحوا عُرضةً للتمييز العنصري والريبة الدينية إضافةً للمخاوف الأمنية. شبابنا الذي نعود وإياه لجذور واحدة لم يقصروا من جانبهم، ابتدعوا التنظيمات المخفية تحت الأرض وانخرطوا في "الخلايا النائمة"، كل ذلك للانتقام من غرب ما بعد 11 سبتمبر وما قبله بقليل، والذي أفسح لهم في القديم مجالاً للعيش وتنفس هواء الحرية والعمل، فبدا وكأن الأطراف كلها على موعد مع الاصطدام والافتراق، ومع الحدود الدنيا للقواسم المشتركة التي كان من المفترض أن تنشأ بينها: عيش كريم نسبياً قياساً لعيش الضنك والضياع في بلدانهم، مع الحفاظ على ما لدى مواطن الهجرة من خصوصيات. ومن جانب آخر معاملة مُنصفة من أصحاب العيون الزرقاء لكل من ساعد قديماً وحديثاً في بناء مدنهم وتاريخهم العسكري؛ معاملة تخلو من التمايز العنصري والديني والأناني، وتترجم روح دساتير الحرية والمساواة والإخاء والإنصاف التي لطالما تفاخر بها مفكرو أوروبا العقود الاجتماعية وواضعو تشريعات حق الإنسان في اختيار معتقده وملبسه وطرق عيشه، على أن يتواءم المقيم الغريب مع الثقافة المحلية ولا يتنافر معها، أو يتصدى لبعضها.. إن لم يسفك دماء بعضها الآخر. ما الذي في الأفق؟ هناك تشجيع وإغراء للآلاف من العرب والمسلمين للعودة لديارهم خوفاً وتقززاً منهم، ورفضاً سلمياً حيناً وعنيفاً حيناً آخر من الجانب المقابل ممن يعتقدون أن أوروبا أصبحت موطناً ثقافياً ودينياً لهم حسب هذا الحق أو ذاك. وبين تلك السياسات القسرية والاعتقادات الخاطئة تبقى حلول أخرى بالغة السوء لأفراد الطرف (الضيف) الأضعف: العودة إلى بلدانهم حيث البطالة والعصا والمراقبة والسجون التي لا ترى الشمس، والانتخابات المعروفة النتائج مُسبقاً، قبل شهور. ومع تلك الأراضي التي بدأت منها هجرات الجموع البشرية الحائرة والخائفة والمليئة بالغيظ لنا لقاء في الأسبوع القادم، إن شاء الله.