باغتيال النائب أنطوان غانم يوم الأربعاء الماضي، يكون فصل جديد من فصول المأساة اللبنانية الدامية قد بدأ. عرف لبنان أزمته الراهنة التي يكاد أن يختنق بدخانها منذ فبراير 2005 حين اغتيل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري على نحو أحدث زلزالاً سياسياً ما لبث أن تلته توابع عديدة، كانت كفيلة بأن يدخل لبنان في إسار أزمة ممتدة باتت تهدد كيانه نفسه. تكررت المشاهد بعد اغتيال الحريري على نحو رتيب رغم مأساويتها، ففي كل مرة يسقط شهيد جديد للحرية في لبنان تسارع قوى الموالاة - بدرجات مختلفة من الشدة والوضوح- إلى اتهام النظام السوري بأنه يقف وراء الحادث الإجرامي، على أساس أن هذا النظام لن يهدأ له بال إلا باستعادة نفوذه في لبنان، وأن سيناريو الفوضى الذي ينجم عن تراكم تلك المشاهد المأساوية هو خير مناخ يستعيد فيه النظام السوري دوره المفقود في لبنان. وبالمقابل يذهب أنصار المعارضة إلى إلقاء التهمة على من لا يريدون للبنان أن يصل إلى وفاق وطني سواء كان هؤلاء موجودين داخل الساحة اللبنانية أو خارجها في إسرائيل ومن على شاكلتها. اللافت في هذا كله أن أحداً لا يهتم بأن يقيم دليلاً على ما يقول، فكل الحجج التي تُساق في هذا الصدد، لا تعدو أن تكون حججاً "منطقية" لا يعترف بها التحقيق الجنائي الذي يبحث عن قرائن وأدلة، وكان الأحرى بأنصار الحكومة التي تتشبث بمقاعد الحكم على نحو غير مسبوق في الساحة اللبنانية رغم ما تعانيه من قصور في تكوينها ومن ثم تعثر في أدائها – كان الأحرى بهم أن ينتبهوا أساساً إلى عجز هذه الحكومة كل العجز عن حماية مواطنيها، وهي -أي وظيفة الحماية- المهمة الأولى لأية حكومة، ولا يجب أن يُعتَدَ بالقول بأن الحكومة الحالية تواجه مخططاً إرهابياً غير مسبوق، لأنها كانت تستطيع إما أن تستعين بحلفائها العرب والإقليميين والعالميين- وهم كُثُر- لتحسين أدائها الأمني، وإما أن تعترف بعجزها فتقبل بحكومة وحدة وطنية أو انتخابات نيابية مبكرة، كان يمكن أن ترتبط بتوافق مبكر على شخص رئيس الجمهورية القادم لو خلصت النوايا وزالت القيود الخارجية. وبدلاً من ذلك استمر منطق إلقاء التهم الجزافية من الجميع من دون استثناء، مع أنه منطق خطر، كونه يحرف النظر عن الفاعل الحقيقي في كل ما جرى ويجري في لبنان. يأتي كذلك ضمن أبعاد المشاهد الرتيبة للمأساة اللبنانية أن الكل ساعة وقوع الحادث الإرهابي، يؤكد على وحدة الشعب اللبناني وصيغة العيش المشترك وضرورة التكاتف للخروج من الأزمة، لكن كل شيء يبقى على حاله بما في ذلك خيام المعتصمين في وسط بيروت، التي يُفترض أنها نصبت أصلاً للإطاحة بالحكومة، غير أنها فشلت في ذلك بحيث لم يبق لها سوى تهمة شل وسط بيروت التجاري، والإضرار بالاقتصاد اللبناني، ومن ثم بحياة المواطن البسيط أياً كان دينه أو كانت طائفته. سار المشهد الأخير لاغتيال النائب أنطوان غانم وتداعياته على الوتيرة نفسها، لكنه لا شك حمل جديداً يجعل منه واحداً من أخطر مشاهد المأساة اللبنانية منذ اغتيال رفيق الحريري إن لم يكن أخطرها، وذلك لاعتبارات ثلاثة على الأقل. أما الاعتبار الأول، فيتعلق بتوقيت الاغتيال، فقد جاء في أعقاب مبادرة نبيه بري التي انطوت على تنازلات متبادلة مطلوبة من طرفي الأزمة الرئيسيين في لبنان، وعلى الرغم من الارتباك الذي ساد معسكر 14 آذار في أعقاب إطلاق المبادرة، والاستخفاف الذي قوبلت به من بعض فصائل هذا المعسكر، فلا يمكن إنكار أنها كانت قد بدأت تولد تيار حوار بين أهم فصائل ذلك المعسكر بزعامة سعد الحريري وبين نبيه بري الذي يفترض فيه أنه يتحدث بلسان المعارضة، ومن ثم، فإن توقيت الاغتيال قصد به من دون شك أن يضرب هذا المناخ التوافقي الوليد. يرتبط بالتوقيت كذلك أن الاغتيال قد وقع قبل موعد الاستحقاق الرئاسي في مجلس النواب بأيام قلائل، مما يجعل تطويق تداعياته المباشرة مهمة عسيرة. وأما الاعتبار الثاني الذي حَمَّلَ الحادث الأخير بجديد في المأساة اللبنانية، فهو أن الاغتيال كان مناسبة، لكي يؤكد الرئيس أمين الجميل طابعاً طائفياً غير مبرر في خطابه السياسي كان قد اتضح بعد خسارته للانتخابات النيابية في المتن الشمالي، ووفقاً لهذا الخطاب فإن الخطر على الاستحقاق الرئاسي القادم خطر على الدور المسيحي في لبنان، إن لم يكن إنهاءً لهذا الدور، مع أنه يعلم أن الأزمة اللبنانية ليست أزمة بين مسلمي لبنان ومسيحييه، فالصف المسيحي -بل الماروني- منشق على نفسه، كما هو الحال في صف المسلمين بين قوى الموالاة وقوى المعارضة، والخطر على الاستحقاق الرئاسي والقرار الذي يمكن أن ينجم عن الإخفاق في انتخاب رئيس جديد للجمهورية خطر على لبنان بالدرجة الأولى، وليس خطراً على مسيحييه أو أي طائفة منه بصفة خاصة، وقد آن الأوان لإهالة التراب على هذا الخطاب الطائفي، الذي لا يحتاجه لبنان بالتأكيد في هذه الظروف المتفاقمة لأزمة تكاد أن تعصف بكيانه. أما الاعتبار الثالث والأخطر، فهو الدعوة الغامضة التي أعقبت الاغتيال إلى حماية دولية للاستحقاق الرئاسي. في البدء بدت كزلة لسان أو نتاج انفعال بالحادث، أو لعل المقصود بها نوع من الرقابة الدولية على إجراءات انتخاب رئيس الجمهورية، لكن التصريحات بدأت تتوالى في الاتجاه نفسه، فالمطلوب من الجامعة العربية والأمم المتحدة توفير حماية دولية للاستحقاق الرئاسي. أخذتُ أمعنُ النظر في هذه المطالبة الخطيرة. لا يمكن أن يكون المقصود مراقبة جلسة أو جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، فالمسألة أبسط من أن تحتاج لمراقبة دولية كونها محصورة في مجلس النواب حيث الإجراءات واضحة والانضباط كامل، فإذا انتقلنا إلى الاحتمال الذي لا يُفهم سواه من مفردات الخطاب المطالب بالحماية الدولية، لوجدنا أن الصورة تنطوي على قدر هائل من الغموض غير البناء. أيكون المقصود هو توفير حماية أمنية لمحيط مجلس النواب؟ لا يحتاج الأمر بأي حال لحماية دولية، فالجيش اللبناني الذي خاض حرباً شرسة لثلاثة شهور ضد عدو يتبع أسلوب حرب العصابات قادر على الوفاء بهذه المهمة من دون شك. أيعقل أن يكون المطلوب هو أن تصاحب قوات دولية كل نائب على حدة، وهو في طريقه إلى الانتخابات أو في طريق العودة منها؟ لا شك أن الأمر ينطوي في هذه الحالة على هزل جدير بالتجاهل. لا يبقى في الواقع سوى أن يكون المقصود بالدعوة تدخلا دوليا يؤثر على موازين القوى في الساحة اللبنانية لصالح قوى الموالاة على حساب خصومها، هنا لا يملك المرء سوى أن يصاب بالرعب من إضافة بديل آخر كارثي إلى بدائل مماثلة موجودة في الساحة اللبنانية بحكم أنه يشترك معها في النتيجة نفسها، وهي دفع الأمور في لبنان دفعاً إلى الانفجار، فالساحة مليئة ببدائل لا يمكن نفي سوء النية -أو الغفلة على أحسن الفروض- عن أصحابها، فمن قائل برئيس يختاره نصف أعضاء مجلس النواب+1، وقائل بأن الأقوى على الأرض هو الذي سيتسلم الحكم في حال الفشل في اختيار رئيس للجمهورية، إلى المطالبة الأخيرة بحماية دولية، وكلها لا تعدو أن تكون وصفات لمصير واحد هو تفجير لبنان من الداخل لا قدر الله، لأن لبنان لا يمكن أن يُحكَمَ إلا بوفاق وطني، وهو ما يقول به أهم أطراف الأزمة على الجانبين، فهل ينجح هؤلاء العقلاء في تجاوز تداعيات الاغتيال المأساوي الأخير لأنطوان غانم، والمضي قدماً في طريق الوفاق الوطني؟ أم أن من يريدون سوءاً بلبنان أقوى من هؤلاء جميعاً؟