أتى رمضان، مثل كل عام، نسخة مكررة ومعادة بغزواته الشرسة من مسلسلات متنوعة، وفتوحات وإنجازات الفنانين والممثلين وسلاطين الطرب، والحملات الدرامية المختلفة، ونجحت الفضائيات العربية كعادتها دائماً، في شن حربها الشعواء ضد المشاهدين بلا هوادة بنحو أكثر من خمسين قصفة صاروخية من المسلسلات والحلقات التليفزيونية، بعد أن استعدت لهذه الحملة على مدى 11 شهراً. ومثل حال كل عام توقف الزمن العربي خلال الشهر الكريم لتصب الفضائيات ما في جعبتها من القصص والروايات التي عفا عليها التاريخ، والتي باتت مملة من كثرة تكرارها، بعد أن تراجع الإبداع الفني، وجرى استسهال الإعلام "التجاري"، في حملة ضارية ومستمرة في حلقات يومية تصب على رأس المشاهد "الغلبان" الذي لا يملك سوى الإذعان لما يملى عليه من كل حدب وصوب، وكأن لسان حاله يدفعه إلى الهرب من الواقع العربي الأليم، إلى وهم آني يلهيه في واقع إعلامي آخر لا هم له سوى المتاجرة وكسب المال، ولتذهب إلى الجحيم القضايا المصيرية العربية، وما يرتبط بها من أحداث وتداعيات، فعائدها هم وغم وضياع الدرهم والدينار. ومثل الأعوام السابقة، انقسمت الفضائيات العربية إلى ثلاثة أنواع، الأول هو الفضائيات التي تملك المال الكافي للاستحواذ على حقوق العرض "الحصري" لمسلسلات بعينها وبرامج مسابقات خاصة تدر عليها إعلانات ورسائل قصيرة بملايين الدولارات، في ظل قناعة القائمين على هذه الفضائيات بأن رمضان فرصة للربح المالي. أما النوع الثاني من الفضائيات فيركز جل همه على البرامج الدينية، والتلقين المباشر للعظات والتذكير بسوء الخاتمة، والتأكيد على فقه العبادات، وترى أن رمضان فرصة لتبصير المشاهد بأمور دينه، وإعادته إلى الطريق السوي و"جادة الصواب" بعد أن ظل 11 شهراً بعيداً عن دينه، ناسياً الموت وعذاب القبر، لذلك فهي لا تمنح أي أمل للمشاهد سواء في حياته أو مماته. أما النوع الثالث من الفضائيات فيحاول أن يجد مكاناً بين النوعين الآخرين، من خلال اعتراف القائمين عليه بأن شهر رمضان مثل باقي شهور العام، فلا حاجة لبذل كثير من المال، فالمشاهد الذي يتابع هذه القنوات يعلم عن يقين، إمكانياتها وقدراتها الإعلامية، فالميزانية محدودة، والمواد المعروضة متدنية الإخراج، ولا يوجد إيمان حقيقي بدور وقيمة الإعلام المرئي وتأثيره وسط انتشار الأمية والفقر والبطالة. لقد بات المشاهد محاصراً في رمضان، مثل كل عام، بين ثلاثية: الإسراف في الأكل، ومشاهدة المسلسلات وإملاءات البرامج الدينية، والجلوس على المقاهي، فانشغل بمعدته وترك عقله وفكره حكراً لموضوعات وروايات وقصص معادة ومكررة ومملة لا تسمن ولا تغني من جوع ثقافي وحرمان سياسي. وفي زخم هذا الحصار، سنحاول أن نستقرئ ما تعنيه عناوين وموضوعات بعض مسلسلات هذا العام، ونحاول إسقاطها على قضايانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصيرية التي نحتاج أن نتخذ موقفاً منها، ليكون ذلك إسهاماً منا في استكمال متعة المشاهدة وتسلية القراء، حتى لا يفوتنا الشهر الكريم من دون أن ندلي بدلونا فيه، وبذلك نخسر فرصة وجود هذا الشهر لشحذ همة الرأي العام ليكون له دور في صنع حاضره وصياغة مستقبله. فحول قضايانا الحيوية الخليجية نجد أن هناك عناوين مسلسلات عدة تعبر بصدق عنها، فعلى سبيل المثال: * مسلسل "المقادير"، عنوانه واقعي ومنطقي لحالة الخلل في التوازن السكاني لبعض دول الخليج العربية، بعد أن أصبحت قدراً محتوماً ومعضلة يصعب الفكاك منها، وبات المواطنون ضيوفاً في بلادهم، وإذا كانت "المقادير" قد فرضت هذا الوضع فإن هناك حلولاً كثيرة من الواجب الوطني أن يجري أخذها بعين الاعتبار، ليس أقلها تحقيق التوازن بين الجنسيات الوافدة، أو التركيز على العمالة الماهرة، والتوسع في الاعتماد على ما توفره التقنيات الحديثة من خفض أعداد الأيدي العاملة، وإن كان يصعب علينا فهم وجود نحو ربع عدد الرافعات الثقيلة في العالم في إمارة مثل دبي الواعدة، في الوقت الذي تمثل فيه العمالة الوافدة بها أكبر نسبة من عدد سكانها. إذن المطلوب هو صياغة استراتيجية متكاملة تشارك فيها كل الجهات المعنية في القطاعين الحكومي والخاص لحل مشكلة انخفاض معدلات النمو السنوية بين المواطنين التي وصلت في بعض دول الخليج إلى 1.5% مقابل 4% للوافدين، وهو أمر تتحمل مسؤوليته الدولة والأسرة في الخليج، مما يحتم وضع حلول واقعية ومقبولة للتخلص من العمالة المتدنية المهارة ومن الأعداد الهائلة للمخالفين والمتسللين، والتوسع عملياً في الاستفادة من التقنيات التي تحد من الاعتماد على الأيدي العاملة. * مسلسل "على حافة الهاوية"، وهو عنوان ينطبق بكل صدق على مسلسل الصراع الطائفي بين السنة والشيعة العرب، سواء في العراق أو في بعض الدول الخليجية الأخرى، فقد آن الأوان ليصحو علماء الدين "العرب" من كلتا الطائفتين ليؤكدوا على سماحة الدين الإسلامي، ويثيروا حمية المواطنة، حيث إن الفرقة بين المسلمين العرب سواء داخل الدولة الواحدة أو بين الدول، تتيح لأعدائهم الفرصة للانقضاض وشن حرب بالوكالة، الخاسر الوحيد فيها هو الشعوب. * مسلسل "الأصيل"، ذلك هو لقب استحقه حكيم العرب الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، بلا منازع فقد كان أصيلاً في كل شيء، فهو أول من جمع بين الأصالة والحداثة، وبين التراث والمعاصرة، وأول من جعل للسياسة أخلاقاً، وأول من أكد على أن بناء الإنسان هو الثروة الحقيقية للدولة، وأول من تعامل مع البشر في كل مكان كمخلوقات لله يجب مساعدتهم والتخفيف من معاناتهم من دون النظر للون أو دين أو عرق، رحمه الله فقيدنا الغالي فقد كان مهموماً بالوحدة ومؤمناً بضرورة الاتحاد بين العرب جميعاً، فأقام دولة اتحادية عربية صمدت في وجه كل التحديات والمخاطر حين تفكك غيرها وبات في غياهب التاريخ. * مسلسل "سلطان الغرام"، وهو اسم ينطبق على ظاهرة الزواج من الأجنبيات والمنتشرة في دول الخليج، حيث المواطن الخليجي يتزوج من أجنبية من دون النظر لتداعيات ذلك على مجتمعه ووطنه، بعد أن يسيطر عليه "شيطان الحب"، فغاب عنه ما يرتكبه بحق أسرته من تفكك العلاقات الأسرية، واختلاف القيم والتقاليد والأعراف، وتداخل للأعراق والأنساب، وضياع الهوية، وفقدان الارتباط بالمواطن والوطن. * مسلسل "طاش ما طاش"، رغم أن هذا المسلسل يقدم الهموم الخليجية بأسلوب ساخر إلا أن عنوانه ذو دلالة لا تخفى على أحد، فعندما تنتشر المحسوبية والوساطة والفساد الإداري وهدر حقوق المرأة، فقد طاشت قدرة الحكومات على علاج الوضع، وفي الوقت ذاته "ما طاش" الوقت والإرادة على تصحيحه، وهذا يجعلنا نتذكر مقولة بطرس "الراهب"، المعروف في الحروب الصليبية، حيث كان يقول: "نعيش ظروفاً صعبة، نحن جعلناها أكثر صعوبة"، لذلك بات الأمر بيد الحكومات الخليجية لتواجه بكل حسم تغلغل الفساد في النظام الإداري، ودفع الشعوب إلى المشاركة السياسية في صنع القرارات التي تمس حياتهم. * مسلسل "لحظة ضعف"، وهو أمر ينطبق بكل صدق على تجار التأشيرات وكذلك كل من يحاول استغلال ثغرات القانون ليثري، أو الذي يضع مصالحه الشخصية فوق مصلحة الوطن، لذلك فإن شهر رمضان فرصة سانحة ليراجع هؤلاء حساباتهم ويندفعوا بكل صدق للعودة إلى جادة الصواب. يقول الشاعر القديم: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا! ومبروك عليكم الشهر.