لقد مضى علينا ثلث هذا الشهر الكريم، تقبل الله منا ومنكم صالح العمل وتجاوز عن ما بدا من نقص تجاه حرمة هذه الأيام المباركة التي يتنافس فيها أهل الإيمان على الطاعة والتزود من نوافل الطاعات بعد الفرائض، في هذا الشهر تبرز عاطفة إيمانية جياشة عند معظم المؤمنين، تتمثل في أمور كثيرة منها مثلاً البكاء وربما النحيب في صلاة التراويح وبالذات إذا كان الإمام عاطفياً في أدائه للقرآن الكريم أو دعاء الوتر، كما تتجلى هذه العاطفة في الحرمين حيث تهب رياح الإيمان على الخاشعين في صلواتهم. ومن المظاهر الأخرى التي نراها في رمضان التصدق بالمال حيث يحتاط المؤمن لنفسه فيزكي ماله في هذا الشهر، وإضافة للزكاة المفروضة هناك الصدقات التي تمتلئ بها صناديق التبرعات من الهبات مما شجع المتسولين على استثمار هذا الشهر لإضافة الكثير إلى أرصدتهم، ومن تلك المظاهر أيضاً التسابق في ختم القرآن الكريم فتجد المساجد لا تكاد تخلو من تالٍ لكتاب الله، ولو بحثت عن جوانب أخرى فسترى قاعات المحاضرات تغص بالحضور وبالذات إذا كان ضيفها من النوع الذي يجيد التعامل مع العواطف كما هو حال العديد من المحاضرين اليوم، مظاهر ومواقع لا تعد ولا تحصى من التنافس للخير والحرص عليه، لكن السؤال المؤرق هو: ما حال الناس بعد رمضان؟ في التربية المعاصرة يتكلم الناس كثيراً عن التدريب وأهميته، والعديد من المؤسسات العالمية والمحلية تخصص أجزاءً من الميزانية للتدريب، لأن البعد عن التطور فترة من الزمن يعني الانتهاء في العالم المتسارع الذي نعيشه اليوم، هكذا رمضان دورة تدريبية لمدة شهر تهتم بالجوانب المختلفة للإنسان، ومن أهم الأبعاد التي تستهدفها هذه الدورة البعد الخفي المتمثل في الروح والقلب محل التقوى التي نادى بها الله تعالى وجعلها "سبباً" وراء تشريع رمضان حيث يقول: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". لكن مع التدريب يتحدث التربويون اليوم عن قياس أثر التدريب على الإنسان، فقد ثبت أن العشرات من الدورات التي يلتحق بها الإنسان يعلن وفاتها فور الانتهاء منها، لأن الأثر لم يكن واضحاً على المتدرب بعد الابتعاد نسبياً عن زمن الدورة، لعوامل كثيرة تتلخص في أمرين: أحدهما أن تخطيط الدورة وأهدافها لم يكونا مناسبين للمتدرب، ولا نستطيع إسقاط ذلك على رمضان، لأن الله تعالى هو من رسم لنا حدوده وشروطه وأهدافه. أما السبب الثاني فيعود للمتدرب نفسه من حيث الانتباه والتركيز والسبب الذي دفعه للاشتراك في هذه الدورة، فبعض المشاركين في الدورات هم كذلك، لأن المدير طلب منهم الحضور، أو لأنه يريد الابتعاد عن جو العمل الروتيني لذلك فر إلى الدورة... وربما يصدق هذا الأمر على البعض في رمضان فهو يصوم لأن الجميع كذلك، أو لأنه يكسر الجو التقليدي لحياته فهو في رمضان ينام جل النهار ويعيش الليل بكل مُتَعه المباحة وربما غير المباحة، وعندها نسأل: كم يوماً بعد رمضان ستستمر عواطفنا الإيمانية هذه؟ من يتأمل في أحوال الناجحين في رمضان وربما غيره من العبادات، يجد أن أسباب هذا النجاح تكمن في عوامل كثيرة لكن أهمها، لمن هو متلبس بهذه الشعيرة الإيمانية، هل خوفاً من الخالق أم طمعاً في رحمته أم حباً يجمعه مع ربه؟ ومن المعروف أن الحب هو العامل الأساس في استمرار العلاقات الناجحة بين الناس بعضهم ببعض، فمن خاف من أحد زالت تلك العلاقة بمجرد الابتعاد عن مصدر الخوف، ومن تعلق بإنسان طمعاً فيما عنده تقل العلاقة بمجرد حصول ذلك المطلوب، أما الحب فهو الخالد، ومن هنا فإنها دعوة صادقة من القلب لإعادة النظر في أسباب صيامنا علّنا نخرج من رمضان هذا بزاد يعيننا على بلوغ رمضان القادم.