تُوِّج كفاح شعوب دول القرن الأفريقي الذي خاضته ضد الاستعمار الغربي بتحقيق انتصارات، أعطت هذه الدول أشكالها السياسية الحالية كدول وطنية مستقلة من المفترض أن تسعى إلى التنمية الشاملة والرقي والتقدم. لقد تم التركيز في المراحل الأولى للفترات النضالية لتلك الشعوب، على الكفاح المسلح وعلى العلاقات الخارجية خاصة في شقها المرتبط بالانتماءات الدولية والإقليمية، وأخذ البعض منها يتساءل: هل تنضم إلى الجامعة العربية، حيث فضلت ذلك كل من الصومال وجيبوتي، أم تبقى مستقلة الحركة وتبتعد عن العرب كما فعلت إريتريا؟ وهل تكون لنفسها ارتباطات دولية مع القوى العظمى، فانضمت إثيوبيا مثلاً إلى المعسكر الاشتراكي في عهد مينجيستو هيلامريام وتبعتها الصومال لفترة، وبقيت جيبوتي مرتبطة بالمعسكر الغربي من خلال ارتباطها بفرنسا، وتراوحت مواقف السودان بين هذا المعسكر أو ذاك. وفي سياق ذلك أُغْفِل الجانب السياسي والاجتماعي الداخلي لهذه الدول إلى حد كبير، ويمكن إدراج الكفاح الذي خاضته شعوب القرن الأفريقي في البداية ضمن قائمة النضالات الرائدة التي خاضتها الصين وفيتنام وموزمبيق وكوريا وغينيا بيساو والجزائر، والتي أرست لنفسها تقاليد نضالية اهتمت بالجوانب الاجتماعية بشتى أبعادها وبتكوين خطوط سياسية داخلية واضحة سارت جنباً إلى جنب مع الخطوط المرسومة للكفاح المسلح. جدير بالملاحظة أن هذا النمط من التفكير لم يخرج من تفكير شعوب القرن الأفريقي خاصة إثيوبيا وإريتريا، ولكن نلاحظ أنه لاحقاً أخذت الخطوط التي تتبعها هذه الدول سياسياً وفكرياً، تتلون بالخطوط التي تنتهجها النخب السياسية التي تقود، وممارساتها هي التي سيطرت على جوانب مسيرة البلاد المعنية بمجملها، ومن خلال ذلك تعثرت مسيرات التجارب المختلفة التي خاضتها على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالإضافة إلى ذلك فقد وجهت النخب السياسية جل اهتمامها إلى العمل لتقوية مواقفها الذاتية ومصالحها الخاصة. لذلك نلاحظ أنها اضطلعت بأدوار مهمة وجهت من خلالها البنى السياسية والاجتماعية في بلدانها على هواها، وفي بعض الحالات نحو تحولات جذرية بعيدة عن الأسس الثقافية والدينية المحلية، وابتعدت تماماً عن الأسس الديمقراطية والمشاركة السياسية التي كانت تنادي بها أثناء مرحلة الكفاح ضد الاستعمار. إننا كعرب، خاصة في الخليج، معنيون بما يجري في القرن الأفريقي ودوله لأسباب استراتيجية وأمنية واقتصادية، وربما سياسية مستقبلاً. وفي سبيل فهم أفضل لواقع دول القرن الأفريقي وما يجري فيها، خاصة ما تعانيه الصومال من قلاقل طال أمدها، لابد لنا من التمعن في ذلك الواقع توخياً لفهم طبيعة وتوجه المسارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية القادمة التي ستخوضها حكومات أو نخب هذه المنطقة. إننا دول أصبحت ذات استثمارات واسعة على مدار العالم، خاصة بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، لابد لنا أن ننظر إلى هذه الدول نظرة مستقبلية على أساس أنها ستكون ساحة واسعة للاستثمار بعد أن تنتقل من مرحلة القلاقل التي تعيشها حالياً إلى مرحلة الاستقرار والبناء، فالصومال وإرتيريا وإثيوبيا والسودان دول يعيش فيها ملايين البشر، وتحظى بموارد طبيعية تجعلها واعدة للاستثمار مستقبلاً. ما تعانيه جميع دول القرن الأفريقي حتى الآن، هو عدم قدرتها على بناء الدولة الوطنية القائمة على المؤسسات الفاعلة، وهي حتى الآن تقودها نخب سياسية جميعها تقريباً غير كفؤة، وربما فاسدة، بل وفي أحيان كثيرة تتسابق إلى الغرق في الفساد، وفي مراكز تلك النخب يقع رجال أقوياء يقودون أتباعهم ويوجهونهم، ويتبعون أنماطاً مختلفة من أساليب القيادة، ويبقون في وضع يستطيعون من خلاله تسيير وتوجيه العديد من الأمور بطريقة مركزية غالباً ما تكون استبدادية وديكتاتورية، ويرتبط استقرار النخبة السياسية قيادياً بشخص الزعيم وبوجوده على قمة الهرم السياسي. نجاح دول القرن الأفريقي تحت قيادة النخب السياسية التي تحكم حالياً، أمر مشكوك فيه، فهذه النخب ليست لديها خطط وبرامج واضحة لمعالجة ما يواجه شعوبها من مشاكل تتعلق بالمعضلات الاقتصادية التي تعصف ببلدانها، وهي لا يبدو أنها تسعى جاهدة للقيام بحل تلك المعضلات بالطرق الممكنة، وتواجهها عوامل جوهرية تمنع تنفيذ أي برامج طموحة حتى لو كانت آتية ضمن المساعدات الخارجية، وتدعي جميع نخب دول القرن الأفريقي أنها تواجه نقصاً حاداً في الموارد المتاحة التي يمكن من خلالها مواجهة متطلبات التنمية واحتياجات الشعوب. ولكن ذلك الادعاء لا يبدو مقنعاً على علاته، فهناك دول أخرى تعاني من نقص أشد في مواردها، ولكنها تبدو ناجحة وقادرة على إطعام شعوبها على أقل تقدير. هنا تبقى إرادة الشعوب هي المحك، ورغبة النخب التي تقود في الابتعاد عن التسابق إلى الفساد هي الديدن والمقياس.