النائب أنطوان غانم شهيداً سادساً في صفوف النواب بعد الرئيس رفيق الحريري، وباسل فليحان، وجبران تويني، وبيار الجميل، ووليد عيدو. محاولة الاغتيال الأولى في المسلسل الإرهابي استهدفت النائب والوزير مروان حمادة في الأول من تشرين الأول عام 2004 بعد قرار التمديد لرئيس الجمهورية الذي تنتهي ولايته الممددة بعد أسابيع. المدة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية تبدأ في الخامس والعشرين من سبتمبر الحالي، وتنتهي في الرابع والعشرين من نوفمبر المقبل. مروان حمادة كان مشروع شهيد رفض التمديد. وأنطوان غانم هو شهيد معارضة التمديد ومفاعيله، وشهيد معركة التجديد في الرئاسة، بمعنى معركة إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها والإتيان برئيس قادر على لملمة الأوضاع وقيادة البلاد في أصعب مرحلة تواجهها، وبالتالي إعادة الثقة بين اللبنانيين. وهكذا يمكن القول إن غانم، شهيد الاستحقاق الرئاسي، والاستحقاق السياسي الأهم الذي من خلاله يمكن العبور الى مواجهة كل الاستحقاقات الأخرى الداخلية من جهة والخارجية المؤثرة عليها من جهة أخرى. كثيرون حذروا من الشر المستطير في الأيام العشرة الأخيرة للمهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد. لم يتوقع أحد حدوث أي عمل إرهابي قبل هذه الفترة أو على الأقل قبل الخامس والعشرين من سبتمبر. لكن أصحاب المشروع الإرهابي الذي يستهدف لبنان، كانوا دائماً في أعمالهم متحكمين بعنصر المفاجأة السلبية ومنحازين إلى حساباتهم وخياراتهم، وبالتالي إلى توقيتهم في تنفيذ عملياتهم وتوجيه ضرباتهم. والنتيجة واحدة. المزيد من الانقسام في لبنان، والمزيد من استخدام الساحة اللبنانية لتصفية حسابات دولية وإقليمية عليها وعلى حساب اللبنانيين ووحدتهم وأمنهم واستقرارهم واستقلالهم وسيادتهم ومستقبلهم، ولن يخرج أحد منهم رابحاً إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه. هذه هي الحقيقة, والاغتيال الأخير الذي استهدف النائب الشهيد أنطوان غانم، صحيح أنه جاء قبل أيام من الدخول في المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقبل أيام من موعد الجلسة الأولى للانتخاب التي دعا اليها رئيس المجلس النيابي، وبعد ساعات من بيان مجلس المطارنة الموارنة، الذي كان حاسماً في دعوة النواب الى حضور وتأمين النصاب وتجاوز كل النقاشات الدستورية حول ذلك، محذراً "الذين يقاطعون الجلسة بأنهم يقاطعون الوطن". وصحيح أن الاغتيال جاء في ظل حركة دولية إقليمية مكثفة، وبعد زيارات لمسؤولين كبار إلى لبنان واتصالات من مراجع دولية بمسؤولين لبنانيين لحثّهم على تمرير الاستحقاق الرئاسي، لكنه جاء أيضاً في لحظة غليان كبير تعيشه المنطقة، من الحديث عن احتمالات الحرب مع إيران، وما رافق ذلك من سيناريوهات وتقديم خطط وإطلاق تهديدات، إلى الغارة الإسرائيلية على سوريا وما رافقها من حملات واتهامات ومعلومات عن مناورات واستعدادات لحروب ومواجهات، إلى التطورات في العراق والسجال حول الانسحابات ومواجهة عملية التفجيرات والاغتيالات وتحميل إيران وسوريا الكثير من المسؤوليات من قبل الأميركيين، إلى التحركات والتحضيرات لقرارات بالعقوبات ضد إيران، والإشارات إلى تباينات وخلافات بين مختلف الجهات، وصولاً إلى الحديث عن سباق جديد على التسلح في الفضاء وعلى الأرض وتحت البحار، وإلى تغيير معادلات في إطار التحالفات والحسابات، كل هذا كان مسرحه لبنان الذي تعرض ويتعرض لمواجهة استحقاقات تلو استحقاقات. فهو لا يكاد يخرج من استحقاق يستهدف أمنه واستقراره وسلامته حتى يواجه آخر. وإذا انتصر هنا بدد انتصاره هناك، وإذا نجح في استحقاق هدد استحقاق آخر نجاحه، وإذا حاور أحدهم في الخارج فعلى حسابه، وإذا ناور آخر فعلى حسابه، وإذا فاوض طرف إقليمي طرفاً آخر خصوصاً إسرائيل فعلى حسابه، وإذا عارض هذا الطرف الطرف الآخر ذاته فعلى حسابه وعلى أرضه (أي على حساب لبنان وأرضه). ويستمر اللبنانيون في دفع الثمن، شهداء من نُخبِه السياسية والقانونية والإعلامية والفكرية والثقافية وتتعمق الانقسامات والخلافات وتزداد الأحقاد بينهم، كما تتعمق أزمة الثقة. لقد آن الأوان للخروج من هذه الدوامة بتأكيد المصلحة اللبنانية قبل أي شيء آخر. بالعبور بالاستحقاق الرئاسي مع رئيس يوحي بالثقة والنزاهة ولا يُفرَض من هنا أو هناك لمراعاة مصالح هذه الدولة أوتلك على حساب مصالح اللبنانيين. ويكون ذلك عبر اتفاق سياسي، يفتح الأبواب أمام استحقاق الرئاسة فنعبره إلى الاستحقاق الآخر، الحكومة وتشكيلتها وبيانها الوزاري لنحمي ما تبقى في البلد. وهذا يتطلب، وانسجاماً مع بيان المطارنة، التصميم على مواجهة التحدي وإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، والمسؤولية تقع أولاً على اللبنانيين. فلا يمكن أن نبقى كل أشهر أو سنوات ندفع الثمن في لعب سياسية ومناورات أكبر منا ونتجاوز مصالح بلدنا الذي يستمر في تقديم كل شيء دون غيره من الدول. والدول العربية والإسلامية والمجتمع الدولي كلهم معنيون بالنظر بعدالة إلى هذا الواقع، ويتحملون مسؤولية في حماية لبنان، لأن الشر المستطير إذا ما أخذ مداه في لبنان، فلن تتوقف نتائجه عند حدود هذا البلد الجبار الذي ورغم كل التضحيات، نرى أبناءه هنا ينتصرون ضد الاحتلال الاسرائيلي، وهناك ضد "فتح الإسلام"، وهنا يقاومون الإرهاب ... لقد آن الأوان ليقاوموا معاً كل هذه المخاطر... فيربحوا معاً وطنهم ومستقبلهم ولا تتهدد إنجازاتهم وانتصاراتهم وتضحياتهم. وداعاً أنطوان غانم . عسى أن تكون آخر الشهداء افتديت بدمك قيمك ورسالتك وإيمانك بوطنك.