غادر توني بلير مقر رئاسة الوزراء البريطانية في "10 داونينغ ستريت" يوم 27 يونيو المنصرم، بعد عشر سنوات حافلة بالأحداث. غير أنني أعتقد أنه مكث هناك طويلاً جداً؛ فقلة قليلة من الناس فقط اليوم هم الذين كانوا يتمنّون لو أنه استمر في منصبه مدة أطول؛ كما أن حكمه السياسي خذله. صحيح أنه سياسي بارع في الخطابة ويجيد التواصل مع الجمهور، غير أن خلَفه جوردون براون بدأ بداية مُبهرة للغاية، ويبدو كما لو أن حزبه، "حزب العمال"، سيفوز بعدد أكبر من المقاعد في مجلس العموم مقارنة بحزب "المحافظين" في الانتخابات العامة المقبلة. شخصياً، عارضتُ بشدة تعيينَ توني بلير مبعوثاً دولياً إلى الشرق الأوسط. ذلك أن ما انتهى إليه التدخل في العراق، وقربه الوثيق من الرئيس الأميركي جورج بوش، ودعمه الكامل لحرب إسرائيل الفاشلة ضد "حزب الله" في 2006، كلها أسباب كان ينبغي أن تقصيه عن هذه المهمة. والجدير بالذكر هنا أن الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان، كان قد أشار إلى اسم وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر ليتولى هذه المهمة؛ وأعتقد أنه كان سيكون اختياراً أفضل بكثير. كنت أعتقد أن توني بلير سيأخذ عطلة مع عائلته قبل الغوص من جديد في أوحال منطقة الشرق الأوسط الساخنة، حيث تعرَّض لانتقاداتٍ لاذعة خلال السنوات الماضية. ولكنه بدلاً من ذلك، اختار تضييع الوقت في التحدث حول كثير من الأمور غير المهمة قبل التطرق لصلب الموضوع، حيث التقى بمعظم الزعماء في يوليو، قبل أن يعود إلى المنطقة من جديد في الرابع من سبتمبر. والحق أن حيويته وحماسه في كل ذلك لافتتان، على كل حال. وكان "جيمس وولفينسون"، رئيس البنك الدولي السابق، قد شغل هذا المنصب قبل بلير، ولكنه استقال في أبريل 2006، بعد نحو عام أو أقل في المنصب، حيث أعلن أنه مستاء من عدم إحراز التقدم وعدم انخراط إسرائيل بشكل جدي في عملية السلام العربية- الإسرائيلية. ومن جانبه، استقال المبعوث الأممي "ألفارو دي سوتو" من منصبه في مايو 2007، وقد عُرف بانتقاداته الشديدة للجنة الرباعية (الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا)؛ حيث اشتكى في تقرير سري من أنها تفتقد الحياد بفعل الدعم الأميركي لإسرائيل، وهو رأي أتفقُ أنا معه تماماً. بيد أن توني بلير سيجد حين عودته إلى المنطقة أن الأزمة تعمَّقت واستفحلت منذ آخر زيارة قام بها إلى هناك. فقد هددت إسرائيل بقطع الكهرباء عن قطاع غزة في أعقاب إطلاق قذيفة من غزة سقطت بالقرب من دار للحضانة. والأكيد أنه ينبغي على "حماس" أن تفهم أن هجمات بالقذائف من هذا القبيل إنما تؤدي إلى نتائج عكسية. واللافت أن "حماس" لم تبذل جهداً من أجل التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، بعد أن استولت على قطاع غزة في يونيو المنصرم، بل إنها تبنت موقفاً أكثر تشدداً وتطرفاً. فوضعت نصب عينيها تحويلَ أفراد مليشياتها غير المدربين في معظمهم إلى قوة عسكرية حقيقية، تساعدها في ذلك إيران التي تمدها بمبالغ مهمة من المال الذي يخصَّص لشراء الأسلحة والمتفجرات. وعليه، فنحن أمام وضع خطير؛ إذ بينما تنتظر حركة "فتح" العلمانية سقوط قيادة "حماس" عن طريق المظاهرات الشعبية احتجاجاً على المعاناة وقساوة الظروف التي يعيشها السكان في غزة كل يوم، فإنه من غير المستبعد أن تكون لدى "حماس" نية إعلان ثورة على الضفة الغربية. وعلاوة على ذلك، فقد فشل الرئيس محمود عباس، الذي لا يمسك بالسلطة بإحكام ويفتقر إلى الكاريزما، في القضاء على الفساد الذي أفضى إلى انتخاب "حماس" أصلاً. ولا أخفي شخصياً، أنني أجدُ زعم الضباط الإسرائيليين اليوم بأن حضورهم في الضفة الغربية إنما يساعد على حماية الرئيس عباس زعماً محرِجاً كثيراً. من جهة أخرى، تتواصل الغارات الكلامية من قطاع غزة على الضفة الغربية؛ حيث تقول "حماس" إنه إذا لم يشرع الرئيس في مفاوضات من أجل جمع الجانبين، فإن إدارته قد تكون قريبة من أيامها الأخيرة. وفي هذا الإطار، يقول فوزي برهوم، الناطق باسم "حماس": "لقد صُنع الرئيس عباس وحكومته على أيدي الأميركيين، الذين صنعوا هذه الحكومة الصورية حتى لا تعترف بالشرعية الفلسطينية". من الممكن أن تكون للإسرائيليين، وبدرجة أقل لـ"المحافظين الجدد" في واشنطن، هذه النية، ولكن مما لاشك فيه أن "حماس" جرَّت الكثير من المشاكل على نفسها. ونتيجة لذلك، تُصنِّفُها الولايات المتحدةُ والاتحاد الأوروبي اليوم ضمن قائمة المنظمات الإرهابية. الواقع أن الرئيس عباس، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الضعيف جداً إيهود أولمرت، عقدا عدة جولات من المفاوضات منذ أن غادرت "فتح" غزة مجبرةً؛ وكلاهما يتطلعان إلى مؤتمر السلام الإقليمي المرتقب في نوفمبر بالولايات المتحدة. ولكنني على يقين من أن الرئيس عباس يخشى أن تزداد محنة الفلسطينيين وتستفحل في حال لم يحصل على تنازلات كبيرة من إيهود أولمرت. اليوم يواجه توني بلير مشكلتين كبيرتين في منطقة الشرق الأوسط؛ ذلك أنه لم يُسمح له بالتحدث مع قيادة "حماس"، وهو أمر قد يرى الكثيرون أنه يمكن تفهمه في ظل الظروف الحالية؛ غير أنه في ظل غياب "حماس"، يبقى من الصعب تخيُّل إمكانية إحراز أي تقدم دبلوماسي. أما المشكلة الثانية، فتتمثل في أن الأميركيين يشددون على أن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس هي المسؤولة عن جمع الفلسطينيين والإسرائيليين، وليس رئيس الوزراء البريطاني السابق. والواقع أنه بعد "10 داونينغ ستريت"، لابد أن توني بلير يشعر بأنه قبل وظيفةً قديمة مضحكة!