عندما وقعت الجريمة المأساوية في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 لم يجد الأصولي الإنجيلي الأميركي القس "جيري فولويل" تفسيراً لها سوى قوله: "إنها عقاب من الله لأن الشعب الأميركي يعصي التعاليم الإلهية". وقبل وفاته بأقل من أسبوع أجرت معه محطة تلفزيون "سي. إن. إن" الأميركية مقابلة في إطار برنامج حول الأصوليات الدينية، شرح خلالها نظريته التي يتمسك بها بقوله: "إن الإجهاض يؤدي إلى قتل مئات الآلاف من الأطفال الأميركيين سنوياً، وهذا أمر يناقض التعاليم الإلهية. كما أن زواج المثليين يتحدَّى الله والقيم الدينية. ولذلك فإن الله أنزل بالشعب الأميركي هذا العقاب الشديد كإنذار لنا، حتى نعود إلى جادة الحق والصواب". وكان زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري قد رددا مراراً وتكراراً أن الله كان مع الذين نفذوا تلك العملية التي ذهب ضحيتها حوالي ثلاثة آلاف إنسان بريء من مختلف الجنسيات والأديان. وإنه ما كان للعملية أن تنجح لولا "التدخل الإلهي" الذي سدّد خطى الرجال الذين نفذوها!. وقبل ذلك بسنوات عندما وقعت جريمة اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحاق رابين أطلق أحد كبار منظّري الأصولية الإنجيلية الأميركية القس "بات روبرتسون" تفسيراً دينياً للجريمة قال فيه: "إن الاغتيال هو عمل من أعمال الله، وإنه حكم إلهي نفذ فيه لخيانته شعبه". فقد اعتبر روبرتسون اتفاق "أوسلو" الذي يعيد للفلسطينيين جزءاً من أراضي الضفة الغربية "تنازلاً عن أرض مقدسة هي أرض الله، وأن لله كلمات قوية تجاه من يقسّم أرضه. لقد استحق رابين غضب الله عندما بدأ يقسِّم أرض الله". وفي الوقت الذي يجري فيه حديث حول استئناف مساعي التسوية السياسية يرتفع صوت منظّر أصولي إنجيلي آخر هو القس "كلارنس واغنر" يقول: "علينا أن نشجع الآخرين على فهم الخطط الإلهية، وليس الخطط التي هي من صنع الإنسان في الأمم المتحدة أو حتى في الولايات المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أو في "أوسلو" أو في "واي ريفر" الخ.. إن الله بعيد عن أي مخطط يعرّض مدينة القدس للصراع بما في ذلك منطقة جبل الهيكل وجبل الزيتون، وهو أبعد ما يكون عن إعطائها للعالم الإسلامي. إن المسيح لن يعود إلى مدينة إسلامية تدعى القدس، ولكنه سيعود إلى مدينة يهودية موحدة تدعى جيروزاليم"! وكان القس "بات روبرتسون" قد حذر في الأول من يناير 2002 في برنامجه التلفزيوني "نادي السبعمائة" من تدخل الولايات المتحدة في النبوءات الدينية وانتزاع القدس من اليهود وإعطائها لياسر عرفات.. فإذا استرجعت الولايات المتحدة القدس الشرقية وجعلتها عاصمة لدولة فلسطينية، فإن معنى ذلك أننا نسعى وراء غضب الله. هذا عن الأصولية المسيحية الإنجيلية في الولايات المتحدة، أما في إسرائيل فقد طلع الحاخام الأكبر يوسف بتفسير للهزيمة التي مُنيت بها القوات الإسرائيلية في لبنان. وقال الحاخام: "إن غضب الله نزل على الذين قتلوا والذين جرحوا من الجنود الإسرائيليين وذلك بسبب عدم أدائهم الواجبات الدينية من صلاة في الكنس، وعدم التزامهم بالأخلاق الدينية اليهودية". وقد لاقت كلمات الحاخام ردود فعل حادة حملته على التراجع عن تفسيره. وهو ما لم يحصل مع أي من "فولويل" أو "روبرتسون" أو "واغنر" في الولايات المتحدة. أما إسلامياً، فقد نشر وزير الإعلام الإيراني السابق عطا الله مهاجراني مقالاً صحفياً قال فيه: "عندما عاد الرئيس أحمدي نجاد إلى إيران بعد أن ألقى خطاباً في الأمم المتحدة، وعندما التقى واحداً من أبرز رجال الدين في إيران وهو آية الله جوادي أمولي، قال إن أحد الحاضرين في الأمم المتحدة أبلغه أثناء المحاضرة بوجود هالة ضوء كانت تحيط به عندما كان يلقي خطابه أمام الجمعية العامة، وإنه هو نفسه أحسّ بذلك أيضاً. وقال الشاهد إنه عندما بدأتَ بالكلمات "بسم الله" رأيت أنكَ محاطٌ بهالة ولم يتغيّر الوضع إلا عند انتهاء الخطاب. وقال أحمدي نجاد: شعرتُ بذلك أيضاً. شعرتُ فجأة بأن الجو تغيّر هناك ولفترة 27 إلى 28 دقيقة لم ترمش عين لأحد من الزعماء. وأكد أحمدي نجاد أنه لا يبالغ. لم تعد الأصوليات الدينية على اختلافها (الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية وحتى البوذية) تؤمن فقط بوجوب الالتزام بالتعاليم الإلهية الواردة في الكتب المقدسة، ولكنها تؤمن بأنها معنية وملزمة أيضاً بوجوب العمل على تحقيق الإرادة الإلهية. وحتى تحقق هذه الإرادة فإنها تعطي نفسها حق معرفة ما يريده الله. وتالياً حق تفسير النصوص المقدسة واحتكار تفسيرها وإلغاء كل من لا يشاركها مفهومها لهذه النصوص. ومن هنا فإن الأصولية الدينية ليست وقفاً على دين دون آخر. ولا على شعب دون آخر. فالأصولية الدينية (ليس بمعنى العودة إلى الأصول، بل بمعنى احتكار تفسير أو فهم الدين وتوظيفه في خدمة قضايا سياسية وحتى عسكرية)، هي أقوى ما تكون في الولايات المتحدة. حتى أصبحت هذه الحركة الأصولية تلعب دوراً أساسياً في صناعة القرار السياسي الأميركي. وقد أثبتت الأصولية وجودها في الهند من خلال الحزب الهندوسي الذي ترأّس رئيسه الحكومة السابقة لعدة سنوات، وهو الحزب الذي قام بتدمير المسجد التاريخي "بابري" بحجة أن الإله "فشنو" تجلى فيه (!) قبل بناء المسجد. وقد ثبت وجود الأصولية اليوم في تايلند كذلك من خلال المؤسسة الدينية البوذية التي تطالب باعتبار البوذية ديناً وحيداً للدولة، وذلك على قاعدة الصراع مع المسلمين التايلنديين في جنوب البلاد المتاخم لماليزيا. ومعروفة هي الحركات الأصولية في العالم الإسلامي وخاصة في باكستان وإندونيسيا، حتى أن "حزب التحرير الإسلامي" مثلاً أعلن عن مشروع لإعادة العمل بنظام الخلافة حتى في بريطانيا، حيث حصل على ترخيص لعمله الحزبي. وعلى رغم أن أوروبا لا تزال بعيدة عن هذه الموجات من التطرف الديني، وعلى رغم أنها لا تزال متمسكة بالعلمانية التي دفعت ثمن الوصول إليها سلسلة من الحروب الدينية (بين الكاثوليك والإنجيليين- البروتستانت)، فإن العامل الديني بدأ يفرض نفسه في عملية اتخاذ القرار السياسي على قاعدة تنامي الحضور الإسلامي في أوروبا، سواء من حيث العدد أو من حيث الدور. فالتصور بوجود علاقة بين الدين (الإسلامي) والإرهاب، أملى على الدول الأوروبية -ومن قبلها على الولايات المتحدة- وضع تشريعات جديدة تفرض قيوداً على الحريات العامة والفردية، مما يشكل تراجعاً عن مبادئ الليبرالية التي تميّزت بها منذ عصر النهضة. وإذا استمر هذا النهج في التصاعد، فقد تشهد أوروبا ولادة أصولية دينية كاثوليكية في دول مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال، وإنجيلية في الدول الإسكندنافية (السويد والنرويج والدانمرك) وألمانيا. من هنا يبرز التناقض الخطير بين العولمة من حيث هي انفتاح وتداخل بين المجتمعات والدول اقتصادياً وثقافياً وبين التطرف الديني من حيث هو انغلاق على الذات ورفض للآخر واحتكار للإيمان والخلاص. ولاشك في أن التوظيف السياسي للدين من شأنه أن يؤدي إلى تعميق هذا التناقض وإلى تسريع وتيرة انتشاره. فالعالم كله يشهد المزيد من تنامي ظاهرة هذا التوظيف، والمزيد من تراجع وذبول ظاهرة فك الارتباط بين ما هو ديني وما هو سياسي. والظاهرتان معاً تشكلان أساساً لاحتمالات الانزلاق ليس نحو صراع ثقافي ديني كما تصوّر الكاتب الأميركي صموئيل هنتينغتون، وإنما نحو صراع سياسي باسم الدين.