هنالك جدلية قديمة ومتجددة في مجال العلاقات الدولية، بالأخص عند تناول الخلية الملتهبة بالحروب في معادلة تلك العلاقات التي يراد من خلالها التوصل إلى أفضل المبادئ الإنسانية العامة في الربط بين العلائق البشرية في العالم. من هنا يطرح السؤال نفسه على تلك الساحة الشاسعة منذ وجود بذرة العلاقة الأولى بين الدول والمجتمعات في كل أطوارها المختلفة. وعندما وصلنا إلى الحاضر الذي نحيا، يتحول ذلك السؤال إلى علامة استفهام كبيرة حول الغاية القصوى من شنّ الحروب التي تطعم أولاً من لحوم البشر، وهي من المفترض أن تكون الأغلى بين أنواع اللحوم المعروضة على أرفف محلات بيع تجزئة الشعوب وتقسيمها، إلا أن الواقع دائماً صادم لكل التوقعات فيصار بلحم الإنسان إلى رخص التراب، بل هو أهون. "عتاولة" الساسة والمتخصصين في فقه العلاقات الدولية يقدمون لنا الأجوبة الطازجة بإصرارهم على مبدأ حرب السلام، أي أن الهدف النهائي لكل الحروب، العالمية منها والبينية، هو إحلال السلام، ولو كان لفترة وجيزة تلتقط فيها الدول أنفاسها التي تقطر دماً وصديداً. وعلى هذا الأساس تشن حروب فجائية لأسباب تافهة أحياناً وتسمى استباقية كما هو الحال مع الإرهاب المعاصر، من أجل الوصول إلى مرحلة "السلام" بعد "الحرب"، وتظل هذه الحالة الشائكة حائرة لفرض احتمالات إحلال السلام المنشود بعد حروب طاعنة في السن. ولا تظنن بأن تلك الجدلية ستقف عند حد معين ما دامت المصانع وأرقى العلوم التقنية قادرة على قلب مصانع السردين في بعض الدول إلى آلة حربية متكاملة وفقاً لنظام تطور الليزر البراق. لقد مرت فترات في تاريخ البشرية التي شوهتها الحروب اللاهية عن أهدافها، وأخرى كان السبب الرئيسي في وقف شنها "لعبة الشطرنج" حيث يقوم القائدان المتخاصمان فيما بينهما بدورة للألعاب الأولمبية يتفق كلاهما بالنصر أو الهزيمة على لوحة الشطرنج، ويسلم كل منهما الأرض للآخر دون أن تراق قطرة دم واحدة، يوم أن كانت أهداف الحروب نبيلة وبعيدة عن إذلال الشعوب وإهانتها بربط السلاسل الضخمة في أعناقها وأرجلها وغيرها من الأماكن الحساسة من أجسادها كما هو الوضع في سجن "جوانتانامو" المقبل قريباً على الإغلاق، لأنه لم يعد يحتمل ثقل الأحمال المضاعفة عليه وخشية أن يخر السقف على بانيه. من ذا يقدم حرب السلام على حب السلام كقيمة ذاتية، أصبح العالم المعاصر أحوج إليها من قديم الزمان، فلمَ لا تتفق كل البشرية بكل أطيافها على شطب حرف "الراء" من بين أحرف الحرب، حتى تكون الغاية الأمثل في حب السلام مع النفس والعائد نفعه على الآخر مهما كان غيراً لا يطاق. فالنظريات في السياسة الدولية ليست أصناماً يصعب إسقاطها، فهي أحياناً أكثر سهولة إذا أرادت "الإرادة" ومن ذلك سقوط صنم "صدام" في وسط بغداد وقد أخذ من عمر العراقيين عقوداً مظلمة. فحب السلام إذا استشرى في قلوب الشعوب، أجدى من انتظار حرب السلام، حتى تؤتي أُكلها ولو بعد حين دون مقياس للزمن بالتحديد، وكأن البشرية واقعة في قعر بئر لا قرار لها، فإذا وصلت إلى الأرض الصعبة، كان الإنهاك مصيرها والضياع سبيلها. فمتى يفيق العالم من غفوته ويراجع الأصنام في نظرياته التي تثير الناس بعضهم ضد بعض، مرة باسم السلم العالمي الحلم الوردي الهادئ، وأخرى باسم توحيد الشعوب في بوتقة واحدة، ومرة ثالثة لمتابعة فلول أعداء السلام، ولو رضي كل هؤلاء أن يصبحوا عبيداً للسلام الحقيقي لما كان لنظريات حرب السلام اسم يرفع.