في كتابه الصادر أخيراً، والذي أحدث ضجة في الدولة العبرية، بل وفي باقي العالم أيضاً، يرى "ابراهام بورغ" رئيس الكنيست الأسبق، وابن "يوسف بورغ" مؤسس الحزب القومي الديني المتطرف (المفدال)، أن تعريف إسرائيل بأنها دولة يهودية "هو المفتاح لنهايتها"، داعياً إلى إلغاء "قانون العودة الإسرائيلي" الذي يتيح لليهود فقط الهجرة إلى الدولة العبرية، معتبراً نفسه "إنساناً (مواطنا في هذا العالم) بالدرجة الأولى ثم يهودياً ثم إسرائيلياً"، مضيفاً إن "الإسرائيلي هو نصف يهودي وفي (الجنسية) الإسرائيلية يوجد فقط جسم بلا روح. إننا موتى... لم يعلنوا ذلك لكننا موتى". ثم ينقل عن "ديفيد بن غوريون" قوله التالي: "إن الصهيونية كانت بمثابة الرافعة لإنشاء البيت، وبعد إقامة الدولة كان يجب حل الصهيونية... إن تعريف الدولة كدولة يهودية هو مفتاح نهايتها، إنه مادة متفجرة". الاستعمار أو "الاستيطان" الصهيوني من جهة، وكفاح الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة أخرى، عاملان "متلازمان" ومتصادمان. لذلك فقد باتت فكرة الدولتين المنفصلتين، هي الأقرب إلى المنطق، ناهيك عن المزاج النفسي لكل من الفلسطينيين واليهود معاً. ونحن هنا لا نروج لحل الدولتين بقدر ما نحاول الوصول إلى حل منطقي يرضي الأغلبية في الطرفين، رغم أن هذا الحل يتم إفشاله إسرائيلياً على الدوام وبشكل رسمي، وفلسطينياً بشكل شعبي. فإن أنت مثلاً سألت الفلسطيني المألوم والمأزوم والمهان، سيجيبك بلا تردد: "فلسطين -المكان والموقع والجغرافيا والتاريخ- لا تقبل القسمة على اثنين". وربما يضيف: "إن فشل أوسلو كحل في تحقيق دولة فلسطينية قادرة على الحياة والاستمرار، يثبت مقولة إن فلسطين لا تقبل هذه القسمة". وبالمقابل يذهل المرء من متابعة كثير من المقالات المنشورة في غالبية الصحف العبرية في ذكرى هزيمة حزيران. ذلك أن ما نشر يبعث على الظن أن الإسرائيليين هم الذين تعرضوا للهزيمة وليس الجيوش العربية، حيث أكد كتاب إسرائيليون تناولوا القضية أنه، بعد مرور أربعين عاماً على هزيمة 1967، يغمر الجمهور الإسرائيلي إحساس بالتهديد الوجودي، والخلاصة أنه لا حل –عندهم- سوى استمرار الوضع على ما هو عليه! ومع ذلك، وتحت عنوان "انهيار فكرة الدولتين"، كتب "نوعام شيزف" في صحيفة "معاريف" بأن "نهاية فكرة الدولتين هي نهاية دولة إسرائيل كما نعرفها. سيبقى في الميدان ثلاثة خيارات فقط: الترحيل، والتفرقة العنصرية، والدولة الواحدة من البحر إلى النهر، ومشكوك في إمكانية تحقيق الخيارين الأولين لأنهما سيُنهيان طريق إسرائيل كديمقراطية وسيشعلان المنطقة كلها، بينما الخيار الثالث سيكون نهاية فكرة الدولة اليهودية". وهذا الطرح يجري التعبير عنه إسرائيلياً –رسميا وعملياً- بخطوات على الأرض. فقد عملوا لسنوات على محو ما يسمى "الخط الأخضر" ببناء مكتظ على جانبيه، وأقاموا أحياء في شرقي القدس وما حولها، وأخيراً أعادوا تخطيط مسار "جدار الفصل" العنصري ليشمل المستعمرات الكبيرة المقامة في منطقة القدس. ومع ذلك، يؤكد "شيزف" بأنه "توجد عند الجمهور والقيادة الإسرائيليين لامبالاة عجيبة، وعمى غير واضح، عن المسيرة المدمرة الموجودة الآن في ذروتها. ولا يجوز لنا أن نُدمن على وهم أن الزمن سيلعب لصالحنا، فمن لا يريد أن يحادث حكومة الوحدة الفلسطينية سيجد نفسه مع حماس وحدها، وبعد ذلك مع مبعوثي القاعدة! وعندما سينشأ شبه العراق على مبعدة خمس دقائق من كفار سابا، لن يعود التاريخ إلى الوراء، وفي الاحتفالات على مرور الحرب ليس من المؤكد أن يوجد ما يمكن التحدث عنه". إن خيار الدولتين ليس جديداً على الفكر السياسي الفلسطيني، فقد طرحت "منظمة التحرير الفلسطينية" هذه الفكرة منذ هزيمة حزيران، مستندة إلى عنصرين: أولهما قانوني يتمثل في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 المعروف بقرار التقسيم، وثانيهما عسكري يتعلق بالآثار الناجمة عن تداعيات الهزيمة العربية عام 1967، مع أن بعضهم يضيف عنصراً ثالثاً يتمثل برفض إسرائيل لفكرة "دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية". ولقد مثل قرار "المنظمة" الأساس القانوني لخيار الدولتين. فهو (كما قرار التقسيم 181) أقر بإقامة دولتين إسرائيلية وفلسطينية. ومع أن الكثيرين اعتبروا مطالبة "المنظمة" بخيار الدولتين، تخلياً عن فلسطين التاريخية والإقلاع عن دعاوى تحرير كامل التراب الوطني، فإنه يجب التذكير بأن قوة القرار تنبع من كون تنفيذه موكلا إلى سلطة البابين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة وذلك عبر مجلس الأمن الدولي، أي إمكانية استخدام القوة لإجبار كل طرف على تنفيذ ما جاء فيه. لذلك، نشطت "المنظمة" في دعواها المطالبة بدولة فلسطينية انطلاقاً من هذا السند القانوني. طبعاً، خيار الدولتين لا يعني التكيف مع الاستعمار (الاستيطان). فالحقائق الإسمنتية التي وضعتها إسرائيل على الأرض، إذ قسمت الضفة الغربية وحولتها إلى كانتونات، لا يمكن تجاهل أنها تستهدف رسم حدود مفروضة على الفلسطينيين. أضف إلى ذلك أن أوضاع المنطقة العربية عامة بعد هزيمة عام 1967، ساعدت على التمهيد للقبول بهذه الفكرة. فقد اقتنعت "المنظمة"، كما معظم الدول العربية، بأن أي تغيرات جوهرية في ميزان القوة بين العرب وإسرائيل أمر مستحيل (أقلها في المستقبل المنظور نتيجة طبيعة الدولة العبرية "السوبر" في المنطقة، علاوة على الدعم السياسي والعسكري المتواصل من الولايات المتحدة لإسرائيل)، ومن ثم فإن تحرير فلسطين التاريخية وإقامة الدولة الفلسطينية الموحدة أمر خيالي. من هنا، اعتبرت "المنظمة" الدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية على جزء من التراب الوطني الفلسطيني فكرة واقعية تتناسب مع طبيعة المرحلة النضالية التي تمر بها القضية الفلسطينية، خاصة وأنها حظيت بدعم معظم القادة والزعماء العرب، وعلى رأسهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بوصفه أحد أبرز دعاة القومية العربية حين أعلن صراحة بأن "دويلة فلسطينية على جزء من التراب الفلسطيني أفضل من لا شيء في المرحلة الحالية"". غير أن فكرة الدولة الفلسطينية ظلت تراوح مكانها حسب مجريات الأحداث، فلسطينياً وعربياً ودولياً. بل إنه منذ 2001، لم تنشأ أية اتصالات سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين رغم عقد عشرات اللقاءات على المستويات "الرفيعة"، لكنها كانت لقاءات تتصل في الواقع وفي أحسن الأحوال بالتسويات الأمنية والأمور الحياتية العادية، لا بالتقدم السياسي. ورغم ذلك، ما زالت المبادرة العربية (السعودية) مرفوضة إسرائيلياً، فيما تصر إسرائيل على عدم وجود "شريك فلسطيني"، بل إن أقوى السيناريوهات تتحدث عن حرب قادمة وليس عن "تسوية تاريخية"! ويا له من مستقبل مظلم!