شهدت واشنطن خلال الأسبوع الماضي تغطية إخبارية كثيفة لسير الحرب في العراق. فقد أمضى كل من الجنرال ديفيد بيترايوس قائد عام القوات الأميركية في العراق، ورايان كروكر السفير الأميركي هناك، ساعات متواصلة وهما يدليان بشهادتيهما أمام اللجان التابعة لكل من مجلس الشيوخ والنواب، إلى جانب إجرائهما اللقاءات الصحفية المكثفة مع شتى وسائل الإعلام. وكانت الرسالة التي أدليا بها في غاية الوضوح والبساطة: إن الوضع في العراق لا يزال سيئاً، غير أن أي انسحاب مبكر لقواتنا منه، سوف تكون له عواقب وخيمة على العراق نفسه ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها، إلى جانب إلحاقه ضرراً بالغاًَ بمصداقية الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها قوة عظمى مسؤولة. وربما كانت أفضل الأخبار الواردة في الشأن العراقي هي تلك القادمة من المحافظات الغربية من العراق، لاسيما محافظة الأنبار التي أعلنت قبائلها وعشائرها السنية كراهيتها لتنظيم "القاعدة" أكثر مما تفعل إزاء المحتلين الأميركيين. وبالنتيجة فقد ارتخت قبضة التنظيم على هذه المنطقة التي بدأ أهلها بالإبلاغ عن عناصره النشطة فيها، والذين إما كان مصيرهم القتل أو الاعتقال على أيدي القوات الأميركية وحلفائهم من العناصر العسكرية السنية. غير أن مصرع الشيخ أبو ريشة في الثالث عشر من الشهر الجاري، أي بعد عشرة أيام فحسب من لقائه المفاجئ بالرئيس جورج بوش، يشير إلى مدى الخطر الذي مازالت تعيش تحته تلك المناطق حتى الآن. أما التقدم الذي أحرز هناك، والذي عادة ما يقاس بمدى انخفاض عمليات القتل اليومي في المنطقة، وكذلك بالعودة النسبية إلى شكل ما من أشكال الحياة الطبيعية لمواطني محافظة الأنبار، فقد أكد عليه الرئيس بوش في الخطاب الذي وجهه للجمهور الأميركي في الثاني عشر من سبتمبر الجاري. وفي اليوم نفسه غادر كل من الجنرال بيترايوس ورايان كروكر واشنطن في طريق عودتهما إلى العراق حيث يواصلان تطبيقهما لسياسة زيادة عدد القوات المعمول بها هناك. وبدا بوش واثقاً ومتفائلاً في خطابه المذكور حيث قال إنه وفيما لو استمر إحراز مزيد من النجاح والتقدم في الاستراتيجية الأمنية المذكورة، فإنه سوف يصبح من الممكن عودة نحو 5 آلاف جندي من الجنود المرابطين في العراق إلى الوطن بحلول موسم أعياد الميلاد في ديسمبر المقبل. غير أن بوش كان واضحاً في الوقت ذاته في تأكيده على ضرورة استمرار بقاء أعداد كبيرة من الجنود المرابطين في العراق لمدة ليست بالقصيرة، ربما تمتد لأشهر طويلة إن لم تكن لبضع سنوات. وكان واضحاً من حديث بوش كذلك أنه سوف يكون متروكاً لمن سيخلفه في المنصب أن يكمل المهمة التي بدأها هو في عام 2003 بغزوه للعراق. على أنه يتعين على بوش الاعتراف بعدم تحقق المصالحة الوطنية بين الفصائل العراقية المتناحرة، عقب البدء في تطبيق الاستراتيجية الأمنية الجديدة القائمة على زيادة عدد القوات، كما كان متوقعاً. والذي تجادل به الإدارة الأميركية الآن، أن الوقت لا يزال مبكراً جداً كي تحقق الحكومة العراقية أي نجاح يذكر في هذا الطريق. غير أن التقدم النسبي الذي أحرز على الصعيد المحلي، كما هو في محافظة الأنبار، يقدم نموذجاً عملياً لإمكانية تبني حل بديل يمكن بواسطته للعراق تحقيق وحدته الوطنية المنشودة جزئياً، واستنهاضه من وهدة المحرقة من "القاعدة" باتجاه قمة الهرم السياسي وليس العكس. غير أن هذا المنطق يثير مخاوف الكثيرين بالنظر إلى أنه كلما قويت شوكة القيادات المحلية وشعرت بسطوتها، كلما ازداد تمردها على الأوامر الصادرة لها من بغداد. والذي لم يتعرض له بوش من قريب أو بعيد في خطابه المذكور، ذلك الانفصال الجاري بحكم واقع الحال عن الحكومة المركزية في بغداد، على نحو ما نجد في إقليم كردستان بشمالي البلاد، وكذلك في محافظة البصرة التي يسيطر عليها المسلمون الشيعة. بعبارة أخرى فقد أصبح "التقسيم الناعم" للعراق أمراً واقعاً، ما يعني تزايد عدم تعاون هذه المناطق أو حتى مجرد استماعها للأوامر الصادرة لها من بغداد كلما ازداد شعورها بالاستقلال عن حكومتها المركزية. ومهما يكن، وطالما أن أراضي العراق لا تزال بعيدة عن تعرضها للاحتلال الأجنبي من قبل أي من الدول المجاورة له، وبخاصة إيران وتركيا، فإنه يمكن القول إن سياسة التقسيم الناعم هذه، هي أفضل للعراق والعراقيين من الانزلاق إلى مأزق الحرب الأهلية الشاملة. على أن هناك من منتقدي إدارة بوش، بمن فيهم المرشح الرئاسي "الديمقراطي" باراك أوباما، من دعا إلى تبني إصدار بيان سياسات جديدة بشأن المهمة العسكرية الجارية في العراق، على أن تنقطع تماماً أي صلة للقوات الأميركية بالأطراف والفصائل العراقية المتناحرة، كما هو الحال في العاصمة بغداد، مع تركيز جهودها الأمنية والعسكرية في قتال تنظيم "القاعدة"، وردع أي تدخل محتمل من قبل دول الجوار. ورغم توفر الكثير من الأدلة على خطأ مسار الحرب، إلا أن بوش لا يزال بعيداً جداً عن الاعتراف بأن حربه قد سلكت طريقاً خاطئاً وكارثياً منذ إطلاق مدافعها الأولى. وما لم يتبن بوش تغييرات جذرية على سياساته المطبقة هذه، فإنه سوف يكون متروكاً لخلفه أن يبذل ما يلزم من جهد للتوصل إلى إجماع سياسي أميركي حول الحرب، إلى جانب التعاون عن كثب مع المجتمع الدولي واللاعبين الإقليميين حتى يتسنى له تفادي تدهور العراق إلى قاع لجة الفوضى والكارثة السياسية التامة. والملاحظ أن أكثر منتقدي هذه الحرب وأشدهم معارضة لها، سواء كانوا داخل الولايات المتحدة نفسها أم في أوروبا أم في العالم العربي، قد باتوا أكثر قناعة، بعدم مسؤولية الانسحاب الأميركي في الوقت الراهن من العراق. وبدلاً من ذلك فالمطلوب الآن هو طرح مبادرات عسكرية ودبلوماسية من شأنها خفض المذابح اليومية الجارية، مع الأخذ في الاعتبار ضعف الحكومة العراقية القائمة.