المؤشرات المتوفرة حتى الآن تقول إن الغارة الإسرائيلية على سوريا الأسبوع قبل الماضي، هي بداية لشيء يحضر ضد سوريا تحديداً. هناك صمت رسمي إسرائيلي مطبق على ما حدث. وتقول تل آبيب إن هدفها من الصمت عدم إحراج سوريا. هذا التفسير هو نوع من الحرب النفسية، لكنه ينطوي أيضاً على تحد مبطن لدمشق ومحاولة للاستفزاز. وفي حين أن سوريا أعلنت اختراق الطيران الإسرائيلي لجدارها الصوتي، إلا أنها التزمت الصمت أيضاً حول ما حدث بالضبط، مما يرجح القول بأن الغارة دمرت أهدافاً معينة داخل سوريا. امتنع الإعلام السوري، وتمشياً مع الموقف الرسمي، عن الدخول في تفاصيل الموضوع. أما الإعلام الإسرائيلي فلم يتوقف عن تناول كل ما له علاقة بالموضوع من أخبار، وتسريبات وتحليلات محلية أو أجنبية. ما رشح من معلومات حول بعض التفاصيل المتعلقة بما يمكن أن تكون الغارة قد أنجزته، جاء أساساً من مصادر إسرائيلية لمصادر رسمية أميركية أولاً، وللإعلام الأوروبي ثانياً. المصادر الأميركية أعطت بدورها هذه المعلومات لصحف أميركية. اللافت هنا أن المصادر الإسرائيلية لم تمد، أو هكذا يبدو على السطح، الصحف الإسرائيلية بأية معلومات. اعتمدت هذه الصحف بشكل أساسي في تغطيتها للحدث على المصادر الإعلامية الأميركية والأوروبية. وحسب هذه المصادر لم يكن ما حدث مجرد اختراق لجدار الصوت كما ذكر البيان السوري، بل كانت غارة استهدفت مواقع محددة داخل الأراضي السورية. معلومات هذه المصادر جاءت غير متسقة، وأحياناً متناقضة. فحسب الـ"نيويورك تايمز"، وبناء على مصادر رسمية أميركية، استهدفت الغارة شحنات أسلحة أرسلتها إيران إلى "حزب الله" في لبنان عبر سوريا. من جانبها نقلت صحيفة الـ"واشنطن بوست" عن مسؤول إسرائيلي سابق بأن الغارة استهدفت موقعاً مجهزاً بقدرات على إنتاج أسلحة غير تقليدية. ثم نقلت عن مصادر استخباراتية أميركية بأن إسرائيل قدمت للإدارة صوراً التقطتها بالأقمار الاصطناعية لمواقع يشتبه بأنها لإنتاج مواد ذات علاقة بالسلاح النووي، وذلك كجزء من تعاون بين سوريا وكوريا الشمالية، وبالتالي فإن الغارة الإسرائيلية استهدفت إما تدمير هذه الأهداف، أو تصويرها وتجميع مزيد من المعلومات الاستخباراتية عنها. هناك احتمال ثالث وهو أن الغارة الإسرائيلية كانت لاختبار القدرات الدفاعية السورية استعداداً لهجوم جوي تعد له إسرائيل على إيران من خلال الأجواء السورية. ويستشهد بعضهم في هذا السياق بالعمق الذي ذهبت إليه الغارة الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، حيث أنها وصلت إلى أقصى الشمال الشرقي لسوريا وقريباً من الحدود التركية. غياب معلومات رسمية سورية أو إسرائيلية حول حقيقة ما حدث، تسبب في تداخل المعلومة مع الإشاعة والرأي، وذهاب التقديرات والتخمينات بعيداً. الروايات عن الغارة أصبحت كثيرة، وأكثرها إثارة في تفاصيلها ما أوردته صحيفتان بريطانيتان، هما "الأوبزيرفر" و"الصنداي تايمز". الأرجح أن الصمت الإسرائيلي مصمم لإثارة هذا الجو من الإشاعات والتحليلات، وهو جزء من العملية ذاتها، لنشر حالة نفسية من القلق والتأهب لشيء ما في المنطقة، وبالتالي ممارسة نوع من الضغط على القيادة في سوريا. صمت الأخيرة حول حقيقة ما حدث، وهو غير مبرر، يصب في الاتجاه ذاته. في كل الحالات لابد من مواجهة السؤال: ما الذي يمكن أن توحي به هذه الغارة التي حدثت بالفعل، لكنها بقيت غامضة بشكل مقصود ومخطط له مسبقاً؟ هناك سياق للغارة وللصمت المرافق لها. من عناصر هذا السياق الطلعة الجوية التي قام بها الطيران الإسرائيلي في مايو الماضي على قصر الرئيس السوري في مدينة اللاذقية الساحلية، وانتهت من دون رد. مع بداية هذا الصيف أخذ المسؤولون الإسرائيليون يتحدثون ويسربون بشكل علني ولافت معلومات عن تحركات واستعدادات وتعزيزات عسكرية سورية، وعن أن ذلك يعني بأن دمشق تخطط لحرب على إسرائيل. بالتوازي مع ذلك كان الجيش الإسرائيلي يقوم بمناورات عسكرية ضخمة في منطقة الجولان ولمدة طويلة. بعد نهاية هذه المناورات جاءت الغارة السرية الأخيرة في عمق سوريا، وصاحبتها تسريبات موحية عن تهريب أسلحة إلى "حزب الله"، وعن نشاطات نووية سورية، وتعاون مع كوريا الشمالية للهدف ذاته. في السياق ذاته يأتي فشل إسرائيل الذريع العام الماضي في حربها ضد "حزب الله"، وهي مقتنعة بأن سوريا هي الممر لتسليح هذا الحزب، وأنها تستخدمه أداة للضغط عليها. وربما أنه نوع من المصادفة أن الغارة الإسرائيلية الأخيرة حدثت في الوقت الذي بدأ فيه تصعيد سياسي أوروبي أميركي لافت مع إيران حول برنامجها النووي إلى درجة أن وزير خارجية فرنسا ذهب إلى القول بشأن هذا الملف "يجب أن نستعد للأسوأ، والأسوأ هو الحرب". يؤكد تصريح كوشنير أولاً ما سبق وقاله رئيسه، ساركوزي من قبل عن خيار الحرب، وثانياً أنه يكشف اصطفافاً أوروبياً مع أميركا حول هذا الخيار، وهو ما لم يحدث عندما قررت أميركا مهاجمة العراق عام 2003. أضف إلى ذلك الموقف المتردي في العراق وتداخله مع الملفين الإيراني والسوري، والاتهام الفرنسي والبريطاني المعلن لسوريا بأنها لا تزال تعرقل الاستحقاق الرئاسي في لبنان، ومستمرة في مساعداتها لـ"حزب الله". الغارة وسياقها يؤكدان ما هو معروف، وهو استهداف النظام السياسي السوري من قبل الولايات المتحدة ومن قبل إسرائيل. هذه حقيقة. لماذا لم تكن سوريا في عهد الأسد الأب مستهدفة كما هي الآن حال النظام في عهد الأسد الابن؟ لم يكن الأب حليفاً للولايات المتحدة، لكنه لم يكن مستهدفا أيضاً. المعروف والمعلن أنه لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل تريد تغيير النظام السياسي في دمشق، لا في عهد الأب ولا في عهد الابن. مما يرجح أن هدف الاستهداف الحالي لا يتجاوز الضغط على النظام لتغيير سلوكه السياسي، وتغيير تحالفاته الإقليمية. هذا يؤكد أمرا معروفا آخر، وهو أن المستهدف الأول في المنطقة هو إيران، وبشكل خاص برنامجها النووي. لكن يبدو أن قرار طهران النهائي هو امتلاك السلاح النووي لحماية مكتسباتها السياسية، وهي مكتسبات استراتيجية، وحماية موقعها ودورها في المنطقة، خاصة في ضوء أن الولايات المتحدة ستبقى في المنطقة لسنوات طويلة قادمة. من ناحية أخرى، يبدو أن القرار النهائي للغرب بقيادة الولايات المتحدة هو رفض امتلاك إيران للسلاح النووي. إذا كان هذا صحيحاً، وهو يبدو كذلك، فالأرجح أن المواجهة بين الطرفين تتجه نحو الصدام، وأن المنطقة على موعد مع ضربة عسكرية غربية، وليس فقط أميركية، لإيران. حجم المخاطرة في ضرب إيران عسكرياً كبير، خاصة بالنسبة لأميركا وإسرائيل، وربما منطقة الخليج العربي ككل. بغض النظر عن تهديدات إيران بأن رد فعلها سيكون مدمراً، وما إذا كان هذا صحيحاً أو مبالغاً فيه، لابد من افتراض أن المخاطرة كبيرة. أحد أهم وأبرز عناصر هذه المخاطرة هو الدور السوري في المواجهة في حال حصولها. من هنا يبدو أن المخطط هو توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية موجعة إلى سوريا، وذلك من خلال افتعال سبب لمواجهة مثل هذه، كما حصل في الغارة الأخيرة. مبررات مثل هذه الضربة موجودة، أهمها أن الطرفين في حالة حرب منذ أكثر من نصف قرن، ومن الممكن تقديمها للرأي العام الغربي على أنها جزء من الحروب العربية الإسرائيلية. وهي ضربة قد تكون الأسهل وتحقق جملة أهداف قد تغني عن مواجهة عسكرية مع إيران في أحسن الأحوال، وفي أسوئها تقلل بشكل كبير من مخاطر هذه المواجهة. سيكون من الصعب على إيران التدخل لمساعدة سوريا، فهذا يعطي الغرب كل المبررات لمواجهتها عسكريا، وتدمير برنامجها النووي. أيضا سيكون من الصعب على "حزب الله" التقدم لمساعدة سوريا، لأن هذا سيكون مكلفاً له وللبنان، إلى جانب أن الحزب منهمك في موضوع الاستحقاق الرئاسي. ثم إن الهدف من توجيه ضربة لسوريا ليس إسقاط النظام، وإنما لإجباره على تغيير سياساته وتحالفاته الإقليمية، وتحديداً تحالفه مع إيران. الطبيعة الأمنية للنظام السوري، وحقيقة أن الهدف الإستراتيجي الأول له هو هدف أمني بشكل أساسي، يضع حدوداً على خياراته في مثل هذه المواجهة. وهو في هذا يختلف عن النظام السياسي الإيراني. بالرغم من كل ذلك يبقى السؤال: هل هذا السيناريو هو الأقرب لإخراج المواجهة العسكرية مع إيران، وللتقليل من حجم مخاطرها؟ هذا مع الافتراض طبعاً بأن الضربة العسكرية لإيران أصبحت خياراً لا يمكن تفاديه.