عاد رمضان هذا العام ببعض طقوسه البديعة. لم يعد الأطفال يلعبون بالطرقات. ولم نستعد بعد الحالة المجتمعية الرائعة التي كانت تميز رمضان وتمنحه رونقه الخارجي وسكينته الروحية الخالدة. وأدعو العرب جميعاً لعدم التوقف أبداً عن أن نحكي لأبنائنا عن رمضان كما عاشته أجيالنا التي ولدت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. سوف يتعلقون دائماً بالثرثرة على الإنترنت أو في أفضل الأحوال الذهاب إلى النادي في عصب وشلل صغيرة. لكن علينا إقناعهم بأن التواصل المباشر والحركي هو أعظم وأمتع وأبقى ألف مرة مما تحول إليه الإنترنت كمقهى افتراضي عالمي. ما أكثر ما خسرنا عندما توقفت الجدات عن الحكي وتوقف الآباء عن النظر بحنو حقيقي لأبنائهم في طريقهم للمساجد من أجل الصلاة والاستماع للموعظة الرمضانية بعد صلاة العشاء وتوقفت الأحياء الشعبية عن احتضان اللعب الجماعية البسيطة والحرة بعد الإفطار. ثمة شيء بدأ يعود ويجدد تقاليد المسامرة الرمضانية: المناقشات الساخنة في ليالي رمضان. وزارة الأوقاف تنصب خياماً كبيرة في باحة جامع سيدنا الحسين لعقد ندوات حول الشؤون الدينية والعامة. وكثير من المؤسسات العامة، وخاصة "الهيئة العامة للكتاب" وبعض الجهات المشابهة في الأقطار العربية الأخرى، تعقد سلاسل من الندوات في ليل رمضان وحتى وقت السحور أحياناً. والأهم أن أكثر مؤسسات العمل الأهلي صارت تستثمر دعوات الإفطار والسحور في رمضان لإجراء مناقشات، ولو سريعة، حول ما يشغل بال الناس هذا العام. ومن أجمل ما عشته في رمضان دعوات الإفطار والسحور التي تديرها جمعيات مسيحية مختلفة وتجمع بين كل عناصر وتيارات الفكر والسياسة في مصر. لا شيء تقريباً يضارع جمال التلاقي الدافئ بين المسلمين والمسيحيين العرب. ينقصنا شيء مهم في هذا التقليد، وهو نقله للأجانب أو يوماً ما للعالم. هل يمكن أن ننقل رسالة قوية عبر أثير رمضان للعالم من حولنا؟ بالتأكيد، إن توصيل تلك السكينة العجيبة وهذه الحرارة المريحة للروح لمختلف الشعوب والثقافات، يهزم كل دعوات الكراهية للإسلام والمسلمين التي بدأت تروج على مستوى شعبي في الغرب وفي بقية مناطق العالم. ولنتحدث عن المهمة المطروحة علينا اليوم. تفاجأنا بدعوة أسامة بن لادن للأميركيين منذ أيام بالتحول للإسلام أو توقع حرب لا تنتهي. ويبدو لي أنه كان يريد في الحقيقة أن يسلِّم للرئيس الأميركي بوش وإدارته سلاحاً فعالاً للغاية للاستمرار في احتلال العراق, بعد أن كانت الدعوة للانسحاب قد وصلت لقمتها قبل إذاعة الشريط الأول لبن لادن. بهذا الشريط تمكن بوش وأعوانه من تصوير الانسحاب من العراق وكأنه هزيمة غير مسموح بها أمام الإرهاب. أي مجاملة مجانية أو أي إسناد سياسي كبير لرئيس تتداعى صورته أمام الرأي العام في بلاده. ما يهمنا في هذا الشريط هو أنه يطور الخطاب التجريدي أو العام الذي يبرر به بن لادن وتنظيم "القاعدة" عموماً عملياته القتالية والعنفوية في العالم وفي العراق بالذات. الخطاب التجريدي العام يعلن شن الحرب على اليهود والنصارى في العالم كله منعشا بذلك تفسيراً للجهاد الإسلامي كان بعض فقهاء السلف يقولون به، وهو ما يسمى بالجهاد الابتدائي أي الزعم بأن من واجب المسلمين دينياً أن يشنوا الحرب على الآخرين بوصفهم كفاراً بعد أن يعرضوا عليهم الإسلام ويرفضوه! وما فعله بن لادن في شريطه الأخير هو تأكيد هذا الخطاب العام في قرار محدد للغاية. ثمة مشكلة سياسية في الموضوع كله، وهي أن بن لادن وأنصاره يصورون الخلاف السياسي بين العرب والأميركيين كما لو أنه مسألة دينية، أما الواقع فهو أن ما بيننا وبينهم في الحقيقة مشكلة سياسية صرفة. ثم إنه يصور العرب والمسلمين كأعداء للعالم باختيارهم وعبر العدوان على كل من ليس مسلماً وأكثر المسلمين أيضاً, بينما الحقيقة هي العرب هم الطرف المعتدى عليه والمحجوبة حقوقه بنص القانون الدولي الذي أنتجه الغرب ذاته. لكن المشكلة الأعمق هي أن خطاب بن لادن وأنصاره يبث روح الكراهية بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات والثقافات الأخرى في العالم. وهذا هو ما يجب أن نتحرر ونحرر الآخرين منه: خطاب الكراهية عبر عمل متصل لا يتوقف. رمضان مناسبة لتركيز هذه الرسالة. فالإسلام يدعو للتعارف والتساكن والموادعة بل والمشاركة والاندماج في "أمة" بين مختلف الناس الذين يجمعهم دستور أو توافق واحد مثل دستور سقيفة بني ساعدة. فرمضان فرصة للتأمل والتدبر وتركيز الإرادة لإطلاق المشروعات الكبرى للمسلمين سواء كانت بناء السلام أم خوض المعارك الدفاعية من أجل نصرة الملهوفين وتحرير المضطهدين من الظلم عندما لا تكون هناك وسيلة أو مقاربة تفاوضية وسلامية. التعارف والموادعة يجب أن يكونا رسالة رمضان من المسلمين لغير المسلمين سواء على المستوى الوطني أو القومي أو العالمي. وأتصور أن هذه هي الرسالة الأشمل في الإسلام, وتؤكدها عشرات الآيات القرآنية والأمثلة السلوكية النبوية. وقد آن الأوان لأن نؤكد مركزيتها في الرسالة المحمدية بعد أن جعلها الغرب مستحيلة أثناء المرحلة الاستعمارية، والآن يجعلها بن لادن وأنصاره صعبة أو معاقة بذرائع متعددة وبمواقف عنفوية لا تغتفر. هذا هو أروع ما يمكن أن نفعله في رمضان هذا العام وكل عام: إطلاق مبادرات كبيرة لبناء السلام العادل في العالم تؤكد معنى التسامح والقبول المتبادل والتعاون في البر بين الشعوب بل والمؤاخاة فيما بينها. ورمضان هو أفضل المناسبات لأنه يدعونا لتركيز الإرادة ولأنه شهر الموادعة والتعارف وبناء الثقة والمحبة بين الناس. نرحب بعودة تقاليد المسامرة في رمضان بإحياء مناقشات أخوية بين المثقفين وعموم الناس, ونرحب بعودة شيء من الدفء في رمضان بين المسلمين والمسيحيين العرب والمصريين, ونرحب بالنسيم الذي يحمله رمضان هذا العام وخاصة أنه أنعش الأمل في إصلاحات كبيرة للنظم السياسية العربية. لكن أكثر ما يمكن أن ينعش مكانة رمضان في الثقافة العربية الإسلامية اليوم، هو تأكيد رسالة التعارف والموادعة والمشاركة في إنجاز رسالة أو رسالات عالمية وخاصة بناء السلام وتمكين المظلومين من الحصول على حقوقهم المهدورة واقتلاع الفقر من جنوب العالم أو من العالم كله.