يعود علينا رمضان بحلاوته وبهجته وبلياليه الجميلة حيث يحول الظلام إلى نور ويمضي الناس لياليهم في التسوق والتزاور، إنه فعلاً شهر لا مثيل له في السنة. الفضائيات العربية تتحفنا بالدراما الرمضانية وتتنافس فيما بينها لجذب المشاهد وتتحول المنافسة إلى حرب ضروس؛ فبعضهم يحاول أن يحتكر كبار الممثلين ويمنع عرض مسلسلاتهم في فضائية أخرى ليجبر المشاهد على مشاهدة فضائية بعينيها. خياراتنا كمشاهدين غير محدودة إلا أن زحام الفضائيات بات يهدد استقرارنا حيث يتولد الخوف من التنافس المقيت الذي انحدر أخلاقياً وتحولت فضائياتنا إلى وسيلة تخريبية تهدد منظومة الأخلاق. لماذا في رمضان؟ استغرب من ارتباط شهر رمضان بالدراما إلى درجة لا تعرف ماذا تشاهد، ولعل توزيع الدراما على الشهور الأخرى قد يخفف من حدة هذا التزاحم. رمضان هو شهر العبادة والتفرغ لمراجعة النفس على ما اقترفته من أخطاء وهفوات، ولعلنا من خلال التفكير والتأمل نعود إلى الرشد في ترشيد السلوك وفهم الظواهر المحيطة. في رمضان يزداد التردد على المساجد ويتحول الناس إلى أتقياء وكأنه فقط في هذا الشهر عليهم أن يظهروا بمظهر التدين ومراعاة العبادات والسلوك الحسن، بينما في بقية الشهور يقومون بكل ما يحلو لهم، حتى وإن كانت معصية وينتظرون رمضان ليمحي معاصيهم. الفهم للدين بحاجة إلى إعادة نظر، فالدين ليس فقط القيام بمجموعة من العبادات، وإنما هو السلوك والقيم الصالحة التي تنمي قوة الضمير لدى الفرد وتحثه على التفاني في خدمة الوطن وتقديس العمل. الغريب أننا في رمضان نميل إلى الكسل ونطلب تخفيض ساعات العمل وكأن الصيام لا ينسجم مع العمل وقيمه، بينما منطق الدين يقوم على فكرة العمل الخيّر والمنتج وليس على التحايل والتهرب من واجبات العمل. ثمة فهم خاطئ للدين ويتحمل علماء الأمة وزر ذلك، فهم من يحث الناس على الاهتمام بأمور هامشية ويهملون لب الدين، وهم من بث فكرة الطاعة العمياء دون مراعاة لشروط الطاعة، وهم من نشر أفكار التطرف بين الناشئة، وهم من أغرقنا بالفتاوى الجوفاء كفتوى الرضاعة وغيرها من فتاوى لا تخدم الدين في شيء سوى أنها تزيد من كراهية الغير لنا. في هذا الشهر الكريم ما أحوجنا إلى أن نعيد حساباتنا وأن نفكر جدياً في أسباب تمزق الأمة وتخلفها وأن ندرك حقيقة الواقع وننطلق من حقائقه لا من الخيال وأحلام الماضي التي لم يعد لها وجود سوى في دفاتر التاريخ. نحن بأمس الحاجة إلى حركة تصحيحية في المفاهيم الدينية تعيد للدين قوته وبريقه وتبعد عنه الزيف الذي جلبه أنصاف العلماء وتعيد للأمة ثقتها في عالم لا مكان للضعفاء فيه. العلة في التفكير الأعوج الذي ساد بين علماء الأمة وفي انتهازية الفئة المثقفة التي حصرت اهتماماتها في مصالحها وأغفلت مصالح الأمة ولعلنا في شهر الصيام ندرك حقيقة الواقع ونبدأ مسيرة التفكير في أحوالنا المتردية؛ فهاهم الفرقاء يتقاتلون في فلسطين، ويتناحرون في العراق، ويتجاذبون في لبنان، والحال يسير من سيئ إلى أسوأ في سائر الأقطار العربية! ليت علماء الأمة يتفرغون لرص الصفوف ومحاربة الفرقة الطائفية وتعلية مفهوم الوطن والمواطنة وتعزيز قيم العمل والإنتاج وتدعيم قيم العدالة الاجتماعية والمساواة ومحاربة التطرف بأنواعه من خلال تعلية قيم العقل واستيعاب خطورة ظاهرة تسييس الدين والكف عن تسخيره لمصالح فئوية. ربما لا نملك إلا الدعاء بأن يعيد الله لنا الرشد وأن يبعد عنا شبح الحرب... اللهم آمين، ومبروك عليكم الشهر.