تكاثرت المؤسسات العربية في العِقد الأخير على صُعد ثقافية متعددة، منها ما يختص بالمسابقات ومنها ما حدد نشاطه بمنح جوائز لذوي التميّز من الباحثين والعلماء والمفكرين والفنانين والشعراء، ومنها ما يغتنم مناسبات اجتماعية أو ثقافية أو تاريخية وغيرها ليقدم تلك الجوائز وما يلحق بها من دواعي التكريم للحائزين عليها. والحق، إن ذلك يمثل تعبيراً عن بعض التحول في المهمات، التي تقوم بها تلك المؤسسات، سواء كانت وزارات أو مراكز ثقافية خاصة أو هيئات أنشئت لهذا الغرض. وليس في ذلك إلا الترحيب والتحفيز، في آن واحد، وسيزداد هذا التحفيز وذاك الترحيب، حين يوضَع في الاعتبار أن الدول العربية -في غالبيتها الساحقة- استنكفت عن مهماتها ووظائفها المنوطة بها، بعد أن تحولت إلى "مشاريع خاصة" بحزب أو بآخر وبزعيم أو بآخر. ومن هنا، أصبح الكلام وارداً على "سلطات" بدلاً من "دول" تقوم على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وعلى الفصل بينها، مع وجود إعلام حرٌ ومؤسسات فعلية وفاعلة. وفي هذا الحال، ينبغي التذكير بأن مؤسسات التكريم، التي نشأت في الغرب الحديث الباكر، قامت على أكتاف مجموعات من الأمراء والسياسيين والمُلاّك، قبل أن تصبح جزءاً من الدولة الديمقراطية الحديثة، وكذلك من مهمات المجتمع المدني. ولسنا نحن هنا في موضع المقارنة بين الوضعين الغربي والعربي، فلكلٍ خصوصيته التاريخية. أما المقصود بذلك فيقوم على إيضاح الموقف العربي في هذه المسألة منذ مرحلة الاستقلال الوطني في عدد من البلدان العربية: صعوبات هائلة في وجه تكوين الدولة المؤسساتية، والنكوص شيئاً فشيئاً عن بدايات مشاريع ديمقراطية تحديثية، وصعود نجم العسكرتاريا المبتعدة عن وظائفها في حماية الوطن، والمُخفقة في المهمات المجتمعية الجديدة التي واجهتها، ومن ذلك مهمة التطور العلمي والثقافي وغيره. أما ما ظهر من فئات من المثقفين والباحثين والعلماء، فقد راحوا يعيشون حالة من "اليُتم"، إذ لا أب لهم ولا أم، خصوصاً مع بدايات تساقط الفئات الوسطى المُفقرة. هكذا تكوّنت تجارب ثقافية مؤسساتية في الحلم الذي حمله مشروع التحديث الوطني الجديد، لتسقط بعد ذلك تحت قبة الهيمنة السلطوية، وتحت أعباء القصور والتخلف التي أحاطت بالمجتمع الأهلي. ومع القول ببعض الاستثناء الذي يتجلى في تجارب جديدة راحت تفصح عن نفسها في أقطار عربية خليجية بصيغ يمكن أن تؤسس تقاليد ثقافية راقية بمشاركة من الدولة ومؤسسات مستقلة، فإن الساحة الثقافية العربية الرسمية والخاصة، تفتقد من مثل تلك التجارب الكثير مما يمكن أن يحرك المياه الآسنة فيها. وإذا كان الأمر على غير هذا النحو، فلْنبحث عن الأسباب، التي لا يخرج بعضها عن الرغبة في تسويق السلطة المهيمنة في البلد المعنِي، وإظهارها في مظهر الأم الحانية على مبدعيها من كل الأنماط. وبهذه المناسبة، لا يستقيم الأمر حين ترغب مؤسسة ثقافية عربية ما -تنتمي للسلطة الحاكمة- في منح مفكر أو عالم أو مبدع جائزة ما، ويقبع -في الوقت ذاته- رجال ونساء مبدعون وباحثون ومفكرون في سجونها. أما التهمة المقدمة إلى أولئك فتتمثل في أنهم مارسوا وظائفهم الاجتماعية والأخلاقية والثقافية من حيث هم مبدعون وباحثون ومفكرون، إذ عبّروا عن تصوراتهم وآرائهم في بلدهم أو وطنهم. في هذا الحال، يجد المرشَّح للتكريم وللحصول على جائزة نفسه في وضعية عامرة من القلق والأسى: أيستجيب لِما يُقدَّم إليه من أهل القرار و"يكْبس على الجرح ملحا"، أم يعلنها واضحة بأنه يشعر بالخجل والعار إزاء زملائه القابعين في السجون، وكذلك إزاء المجتمع الذي ينتمي إليه، إذا قبله؟! لقد وُضِعنا في هذا الموقف الوجودي والأخلاقي الإشكالي، ولكننا خرجنا منه، بعد الاعتذار عن قبول العرض الجميل، إلاّ إذا اقترن بالاستجابة لمطلِب طيِّ ملف اعتقال أهل الرأي، القابعين في أماكن لا تليق بهم ولا بالوطن السوري الصغير. فهذا الأخير مفعمٌ بعبق الحضارة، التي أنتجت أول أبجدية في التاريخ العالمي، وقدمتها لذوي العقل والحصافة والتنوُّر، كي يصوغوا بها أحلامهم وعلومهم ونظرياتهم، برسم نهوض ذلك الوطن الصغير والوطن العربي الكبير. إن عصرنا الجديد هذا الذي نعيش إن لم تصبح الحكمة والعقلانية والبصيرة التاريخية مدخلاً إليه وإلى مشكلاته العظمى، فقد يكلفنا ذلك كثيراً من الأسى والآلام والندامة، وخصوصاً أن أحوال البلاد والعباد لم تعد تحتمل أكثر.