ما أن أذاعت دمشق نبأ الغارة الإسرائيلية، في الخامس من الشهر الحالي، حتى قفزت سيناريوهات الحرب إلى الأذهان، فثمة حرب مبرمجة ومعلنة منذ شهور لكنها تبحث عن موعد ومبررات. كان الموعد في الصيف الذي ينقضي لتوّه، وها هو ينتقل الآن إلى الخريف، وليس مستبعداً أن يؤجل إلى الربيع المقبل، وكأن المسألة شديدة الارتباط بحال الطقس. أما المبررات فهي كثيرة إذا كان هناك أصلاً قرار بالحرب بمعزل عن الأسباب (كما حصل في العراق)، لكنها قليلة وربما معدومة لدى التدقيق في الوقائع. مهما اجتهدت التحليلات وشطّت، فإن قدرات سوريا لا تسمح لها بأن تسعى إلى حرب أو تبحث عنها، ولا يمكن الركون إلى سيناريو الحرب-الصفقة التي تشكل مدخلاً إلى مفاوضات سلام مع إسرائيل، فعدا أنه سيناريو افتراضي وخيالي ليس هناك ما يمنع الذهاب إلى التفاوض من دون أكلاف الحرب، متى توفرت الإرادة لدى الطرفين، ثم أن أحداً لا يستطيع التحكم بمجريات الحرب وأوجاعها. ومن هنا فإن البراجماتية التي انتهجتها سوريا طوال أربعة عقود ربما تحتاج إلى دواع استثنائية كي تتخلى عنها وتجنح إلى استدراج حرب. بديهي أن التحالف مع إيران غيّر المنحى الاستراتيجي لسوريا، التي تواجه حالياً شبه عزلة إقليمية، خصوصاً عربية، بل إنه غيّر أيضاً المقاربة الأميركية والإسرائيلية للنظام السوري. فبمقدار ما يراد الحفاظ عليه تجنباً لبديله الإسلامي أو "القاعدي"، بمقدار ما هو مطالب الآن وبإلحاح بالتخلي عن علاقته الموسعة والمعمقة مع إيران، فهذه العلاقة التحالفية هي التي تتيح لطهران التلويح بـ"إشعال المنطقة" إذا تعرضت لضربة أميركية. لكن هذا الحلف مع إيران بات الورقة الوحيدة والأخيرة التي تملكها سوريا وتمكنها من لعب دور استراتيجي في المنطقة. ومن خلال هذا الحلف استطاعت دمشق أن تحافظ على موقع للمساومة في الشؤون العراقية والفلسطينية وخصوصاً اللبنانية، ذاك أن انسحاب قواتها من لبنان أقفل ملفاً ليفتح ملفات أخرى يبقى أهمها وأخطرها مشروع المحكمة الدولية للنظر في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. كانت حرب لبنان صيف 2006 اختباراً أولياً لأي عمل عسكري ضد إيران ولتداعياته الإقليمية، إذ احتكّت تلك الحرب مراراً بسوريا، إذا أن إسرائيل فضلت إبقاء استفزازاتها محدودة ومحسوبة، كما فضلت دمشق التصرف كأنها غير معنية، إلا أن إخفاق إسرائيل في تحقيق انتصار، رغم كل الدمار الذي أحدثته، شجع الرئيس السوري على تبني النصر على إسرائيل في تلك الحرب وإبداء الاحتقار لكل من عارضها من العرب. لكن أهم ما كشفته الحرب كان تبلور شبه تحالف دولي غربي وقف عملياً وراء إسرائيل وأعطاها فرصة كاملة لتبرهن على ما يستطيعه تفوقها العسكري، إلا أنها فشلت في إنجاز المهمة. كانت تلك الحرب، إذاً، اختباراً للاستعدادات الإيرانية في لبنان، ومعروف كيف انتهت بتعزيز القوات الدولية على طول الحدود الجنوبية وبمنع قوات "حزب الله" من الانتشار والعمل جنوب مجرى نهر الليطاني، أي إبعادها نحو 40 كيلومتراً عن الحدود للحد من احتمالات المواجهة بينها وبين إسرائيل. منذ انتهاء تلك الحرب، وبعد الأداء السوري الذي تلاها، وكذلك ازدياد التنسيق الإيراني-السوري، اعتبرت إسرائيل أن لدى سوريا "مفاجأة" ما وأن عليها أن تكشفها. بعد سلسلة من المناورات السياسية المباشرة وغير المباشرة بشأن استئناف مفاوضات السلام وشروطه ومضمونه، وبعد سجال كلامي شبه يومي حول التسلح النشط لسوريا، جاءت المناورات العسكرية الإسرائيلية في الجولان، ثم كانت الغارة التي سجلت أكثر من ست روايات لما حصل فيها ولأهدافها المحققة وغير المحققة (منظومة صواريخ، منشآت تطوير أسلحة، شحنة أسلحة لحزب الله، خبراء كوريون وإيرانيون، مجرد اختبار، مجرد رسالة...)، وأخيراً ارتأى الإسرائيليون أن يبادروا إلى استغلال التكتم السوري، فأخرجوا قصة "التعاون النووي" بين كوريا الشمالية وسوريا، وهكذا يمكن بنظرهم ضم سوريا إلى الملف النووي الإيراني، من قبيل التهويل والترهيب. الهدف ليس سوريا ولا نظامها، وإنما القدرات الإيرانية عبر سوريا، فضلاً عن تقدير ما إذا كانت سوريا تبني استعدادات للمساهمة في أي حرب من أجل إيران وبسببها. ولأن حرب العام الماضي أثبتت مجدداً خطر السلاح الجوي الإسرائيلي، فإنه سيكون محك أي مواجهة ومحور أي استعدادات، ولابد أن تتهيأ سوريا لمواجهته تماماً كما يفعل "حزب الله". وطالما أن الولايات المتحدة تواصل مخاطبة دمشق بالمطالب والشروط من دون توضيح ثمن أي تنازلات، فإن الخيار الوحيد لسوريا أن تبقى مع إيران وأن تتحمل التبعات.