هناك أغنية تمجد الجندية يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الأولى وربما إلى ما قبل ذلك، تقول كلماتها: "نحن هنا لأننا هنا... لأننا هنا... لأننا هنا"، ويمكنك أن تكرر "لأننا هنا" أي عدد من المرات تشاء. ويمكنك أيضاً إضفاء مزيد من القيمة الفنية على الأداء من خلال استهلال القصيدة بسؤال: لماذا نحن هنا؟ ثم تجيب بعد ذلك: "نحن هنا لأننا هنا..."، وهكذا دواليك. كما يمكنك أيضاً أن تضع خاتمة للأغنية وهي: هذا هو سبب وجودنا هنا... هذا هو سبب وجودنا هنا. ولعل القارئ الذي يقرأ هذا الكلام يلحظ نوعاً من الشبه بينه وبين التفسيرات التي ربما يكون قد سمعها في حجرات الاستماع بالكونجرس نهاية الأسبوع الماضي، عندما قدم كل من الجنرال ديفيد بيترايوس، والسفير اريان كروكر تقريريهما بشأن الحرب في العراق واللذين كان الكونجرس قد طلب منهما تقديمهما للإحاطة بجوانب الوضع في ذلك البلد. كما كان متوقعاً، قال الرجلان إن هناك أشياء قد تحسنت، وأخرى ظلت -إلى حد كبير- على حالها ، كما أكدا على عدم وجود ضمانة للنصر، وحذرا من الانسحاب الأميركي المبكر من العراق الذي لم يعد يمثل خياراً في نظرهما، لأنه سوف يجلب الفشل الذي سيقود بدوره إلى الفوضى الشاملة والحرب الأهلية. ويمكن لبعض القوات الأميركية -بحسب الرجلين- العودة للوطن هذا الشهر، على أن تنسحب أيضاً قوات أخرى في الربيع المقبل، أي في توقيت ملائم للحملة الانتخابية. وأكد الرجلان أن عودة تلك القوات قد تقررت بالفعل وتم إعداد الجداول الزمنية لذلك، لأنها أنهت مدة خدمتها هناك، وأي تأجيل لتلك الفترة سيكون له ردود أفعال غير إيجابية سواء على الجنود أو على عائلاتهم. لم يتحدث أحد منهما أو في واشنطن عن النصر، لأنه لم يعد هناك أحد يتخيل ذلك النصر وشيكاً. ومعظم الديمقراطيين المعارضين للحرب لا يستطيعون من الناحية الواقعية تخيل الانسحاب الكامل من العراق، وجميعهم تقريباً يقولون إن الحاجة سوف تستدعي بقاء بعض القوات للمحافظة على استتباب النظام، والحيلولة دون انزلاق العراق إلى "الفوضى الشاملة"، والدفاع عن إسرائيل والتدخل ضد الإرهابيين الدوليين، والتحوط ضد أي أحداث طارئة قد تقع في المنطقة، وحراسة النفط الذي سيتم بيعه -إذا ما مضت الأمور كما هو خطط لها- بموجب عقود طويلة الأمد للشركات الأميركية. والحاجة إلى وجود قواعد أميركية في العراق تنبع من حقيقة أن تلك القواعد ستمثل دعماً لا غنى عنه لمسؤوليات أميركا الأمنية العالمية (عبرت هيلاري كلينتون عن تلك الحقيقة حين قالت إنها لو أصبحت رئيسة، فإنها تتوقع أن تظل القوات الأميركية باقية في العراق حتى بعد انتهاء فترتي ولايتيها في البيت الأبيض). ولكن ماذا عن إيران؟ على ما يبدو، فإن أحداً في واشنطن لم يلحظ حتى الآن حقيقة أن إدارة الحرب في العراق قد أصبحت حالياً إحدى الوظائف الدائمة للحكومة الأميركية. فالولايات المتحدة منخرطة رسمياً في خوض حرب عالمية دائمة ضد الإرهاب... وتخبرنا المستندات الرسمية أن ذلك يعني التعامل مع الأسباب التي يعتقد أنها مسؤولة عن الإرهاب وهي: الفقر، والانهيار السياسي، و"الدول الفاشلة" والتطرف الإسلامي. ويشار في هذا السياق إلى أن سبب إنشاء القيادة الجديدة لأفريقيا التابعة للبنتاجون، هو أن أفريقيا توجد بها في الوقت الراهن عدد من الدول الفاشلة يفوق ما هو موجود في أي قارة أخرى، علاوة على تحولها مؤخراً إلى مصدر مهم للنفط بالنسبة للولايات المتحدة. والحرب التي تخوضها الولايات المتحدة هي حرب بلا نهاية. فليس من قبيل المبالغة القول إنه إذا ما تم أخذ الافتراضات المتعلقة بالدور الدائم على محمل الجدية، فسيكون معنى ذلك أن الولايات المتحدة ستكون منخرطة بشكل أو بآخر في حرب ما، وبشكل رئيسي -ولكن ليس حصرياً- في دول العالم الثالث، وفي الدول الفاشلة، وسوف تستمر لبقية القرن الحالي. والبديل عن ذلك -كما يؤكد لنا زعماء الأحزاب السياسية (ومعظم زعماء الدول الحليفة أيضاً الذين تركوا الولايات المتحدة تفكر لهم أو بالنيابة عنهم) سيتمثل في العودة إلى النزعة الانعزالية، والتهرب من المسؤوليات، والتخلي عن شعوب العالم وتركها كي تعتني بأمورها بأنفسها، وتحل -أو تخفق- في حل أزماتها الخاصة. فالأصولية الإسلامية والتطرف مشكلتان إسلاميتان بالتأكيد وهما مشكلتان من المؤكد أن الغرب بمفرده غير قادر على حلهما. فمسلحو "طالبان" هم في النهاية أفغان يهددون أشقاءهم الأفغان وليس مفهوماً، والحال كذلك، لماذا ذهبت قوات "الناتو" إلى أفغانستان كي تقاتل هؤلاء المسلحين بالنيابة عن الأفغان؟ خلال المناقشات التي دارت في واشنطن حول العراق هذا الأسبوع لم يتطرق أحد إلى التجنيد الإجباري كعلاج للنقص في أعداد الجنود الأميركيين، لأنه لو كان أحد قد تجرأ وفعل ذلك، لكان قد تعرض لصاعقة سياسية أسقطته صريعاً على الفور. والسبب الثاني لعدم ذكر موضوع التجنيد الإجباري، هو أنه لا أحد في الولايات المتحدة يعتقد أن الحرب في العراق "والحرب الطويلة ضد الإرهاب"، تساوي حياة مجند أميركي واحد إذ الجيش المحترف وحده كفيل بتحقيق كل ذلك. يلوح لي أن هذا هو المقياس الحقيقي لمدى الجدية التي ينظر بها الأميركيون الوطنيون حقاً -بمن فيهم ديك تشيني وجورج بوش- إلى هذه الحرب. فهذه النظرة تقوم على القول: فلندع الأميركيين الآخرين (أو المهاجرين الجدد المجندين) يموتون في الحرب، وهذا ينطبق على العراقيين، والأفغان، والإيرانيين أيضاً! ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"