في بداية هذا الصيف، أطلقت وكالة المعايير الغذائية البريطانية تحذيراً بضرورة خفض كميات المِلح في طعام الأطفال، بغرض وقايتهم من مجموعة من المشاكل الصحية في المراحل اللاحقة من حياتهم. ويأتي هذا التحذير في أعقاب توصيات نشرتها الوكالة في مارس من العام الماضي، بهدف حث مصنِّعي الأغذية ومحلات الأطعمة على خفض كميات الملح بحلول عام 2010، في الأغذية التي تباع للبالغين والأطفال على حد سواء. ولكن كيف يمكن أن تتسبب بعض جرامات يومية من هذه المادة الكريستالية في مشاكل صحية، وفي الوفاة أحياناً، إلى درجة تتطلب إطلاق الهيئات الصحية للتحذير تلو الآخر عن مخاطر الإفراط في تناولها؟ وهل من الممكن فعلاً خفض كميات ما نتناوله من ملح يومياً، في ظل حقيقة أن معظم ما نتناوله من ملح يأتي متخفياً داخل الأطعمة المُصنعة مسبقاً، بما في ذلك الخبز والحلويات؟ بداية، يجب أن نستعرض المشاكل الصحية والأمراض التي يعتقد الكثيرون أنها ترتبط بالإفراط اليومي في تناول ملح الطعام. أولى تلك المشاكل الصحية، وربما أهمها، هي العلاقة بين ملح الطعام وبين ارتفاع ضغط الدم. حيث ينص تقرير نشر عام 2003 للجنة العلمية الاستشارية للتغذية التابعة للحكومة البريطانية، على أن الأدلة تتزايد على وجود علاقة قوية بين ملح الطعام وبين ضغط الدم. وهذه العلاقة كانت دائماً ثابتة في الدراسات التي شملت العديد من قطاعات المجتمع، ومن الفئات العمرية المختلفة. وفي منتصف شهر أبريل الماضي، نشرت دراسة أجريت في أحد المراكز الطبية التابعة لجامعة "هارفارد" بالولايات المتحدة، وخلصت إلى أن تناول كميات أقل من الملح، يؤدي إلى خفض احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين بنسبة 25%، وخفض الوفيات الناتجة عنها بمقدار 20%، وهي نتيجة تؤكد الحقيقة المعروفة بأن زيادة الملح في الطعام، تؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، والذي يؤدي بدوره إلى زيادة احتمالات الإصابة بالذبحة الصدرية وبالسكتة الدماغية. وإذا ما كانت العلاقة بين ملح الطعام وبين ارتفاع ضغط الدم واحتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب والمخ، معروفة لدى العامة والأطباء على حد سواء، فما يجهله الكثيرون هو أن أصابع الاتهام تشير أيضاً للملح بسبب مجموعة متنوعة من الأمراض الأخرى. ففي حالة الجهاز الهضمي مثلاً، يتهم البعض زيادة الملح بالتسبب في الحرقة المعدية، وفي قرحة وسرطان المعدة، وقرحة الاثني عشر. وبالنسبة للعظام، يتهم الإفراط في تناول ملح الطعام، بخفض كثافتها ومن ثم إصابتها بالهشاشة، وخصوصاً بين النساء والفتيات، حسب دراسة أجراها علماء جامعة "بوردو" (Purdue University) بالولايات المتحدة. وبخصوص الأطفال، يتهم العلماء ملح الطعام بالتسبب في زيادة احتمالات الإصابة بالأزمة الشعبية. وبخلاف الأزمة الشعبية، وحسب التحذير الصادر هذا الصيف عن وكالة المعايير الغذائية، تؤدي الزيادة في كميات الملح في سن الطفولة، إلى ارتباط المذاق الجيد بكميات كبيرة من الملح. وهو المذاق الذي يحمله معهم الأطفال إلى المراحل اللاحقة من حياتهم، ليصبحوا عرضة حينها للأمراض المرتبطة بالإفراط في تناول الملح في سنوات منتصف وآخر العمر. ولكن هل من الممكن واقعياً، خفض ما نتناوله، وما يتناوله أطفالنا، من ملح في الطعام؟ إن محاولة تحقيق مثل هذا الهدف تواجه دائماً بصعوبة بالغة، في ظل حقيقة أن 75% من الملح الذي نتناوله كل يوم، يأتي من أطعمة مضاف إليها الملح مسبقاً. فبوجه عام، يمكن تقسيم ما نتناوله من ملح إلى ثلاثة مصادر رئيسية: 1- ملح الطبخ، والذي تضيفه الزوجة أو الأم عند الطبخ. 2- ملح المائدة، والذي نضيفه أحياناً أثناء تناول الوجبة. 3- الملح المضاف مسبقاً، في الأغذية المصنعة، أو المشتراة خارج المنزل. ولإظهار مدى حجم هذا المصدر الأخير، يكفي أن نذكر أنه في الوقت الذي تشير فيه التوصيات إلى الاكتفاء بثلاثة جرامات من الملح يومياً، للطفل بين سنَّيْ الرابعة والسادسة، نجد أن ساندويتش محلات الأطعمة السريعة يحتوي على 2.3 جرام، بينما يحتوي كيس البطاطس المقلية على جرام واحد. وهو ما يعني أن وجبة واحدة من مطاعم الوجبات السريعة، تحتوي على كمية من الملح، أكبر من إجمالي المقدار اليومي المفروض لطفل في سن السادسة. ومما يزيد الأمور صعوبة، أن بعض الأطعمة الشائعة، مثل حبوب الإفطار أو الخبز العادي، تحتوي في كل خمسين جراماً منها على جرام ونصف من الملح. أضف إلى ذلك أن بعض الأطعمة الموجهة خصيصاً للأطفال، مثل البسكويت، تحتوي أيضاً على كميات من الملح. ومثل هذا الواقع، يلقي بالعبء الأكبر على عاتق صناعة الأغذية، في خفض مقدار ما نتناوله من ملح بشكل يومي. وإن كان هذا ليس من المتوقع في أي وقت قريب، في ظل أن صناعة الأغذية تسعى جاهدة لإخفاء محتوى منتجاتها من الملح، من خلال إرباك المستهلك بإعادة تسمية (المحتوى من الملح) إلى (المحتوى من الصوديوم). فهذا الصوديوم، هو العنصر الأساسي في ملح الطعام الذي يسبب المشاكل الصحية سابقة الذكر. ولذا، يظل كل ما يستطيعه المستهلك حالياً، هو تجنب الأطعمة المحتوية على مقادير عالية من الصوديوم، وهي تلك التي تحتوي على 0.5 جرام -أو أكثر- لكل 100 جرام من المنتج. مع التوجه للمنتجات المحتوية على نسب منخفضة من الصوديوم، أو تلك التي تحتوي على 0.1 جرام -أو أقل- لكل 100 جرام من المنتج. وفي المنزل، لابد من خفض كميات الملح المضافة عند الطبخ وعلى المائدة، مع تجنب الإفراط في الأطعمة المحتوية على كميات كبيرة من الملح من الأساس، مثل الأجبان والزيتون والمخللات.