لماذا عندما تهل مواسم المناسبات والأعياد في الولايات المتحدة أو أوروبا، لا تشتعل أسعار السلع، ولا تتزاحم فرص الاستغلال والنهب؟ وكيف تأتي العروض والخصومات في مثل هذه المواسم الاحتفالية؟ لأن التاجر في أميركا وأوروبا وببساطة شديدة يُعد واحداً من المستهلكين وليس غريباً قدم لأرضٍ خصبةٍ، ولا زائراً يبحث عن اختطاف أرزاق الآخرين ويفر هارباً بحثاً عن صيد ثمين جديد. فلا أحد سيشعر بك إلا أهلك، ولا أحد سيفهم حاجتك إلا محتاج مثلك، وليس الأمر متوقفاً على حاجة عمياء بلا نظر لتقرر مدى حاجتها الماسة من عدمها. الأمر هنا متوقف على تقدير خطورة الأمر، وعلى إدراك معنى كيف هو الاستغلال بشع وموغل في انتهاك فرص، هي في حقيقتها حاجة واحتفال بأجواء رمضانية، تزهو بضيوفها وبليال معطاء مختلفة ومتألقة. فالهريس اليوم - هو الطبق الشعبي الرمضاني الأشهر- تعذر على صُناعه هذا العام، فأصبح من الصعب عليهم توزيعه كما كانوا يفعلون طوال سنوات خلت، ذلك لأن كل مكوناته تحولت إلى نار لسعت ميزانيتهم المنهكة، والهريس ليس فرصة "عطاء جيراني" فقط، إنه احتفال مختلف وانعكاس لمستوى اجتماعي معين، وكون أن يتحول إلى طبق باهظ الثمن فهذه حالة تستدعي دراسة فورية، وتعكس حقيقة الغلاء الفاحش في كل تفاصيل حياتنا اليومية. فإذا كان ارتفاع أسعار القمح مبررا بغلاء عالمي يعود سببه إلى تغيرات مناخية وما يتعلق بها من جفاف أو فيضان، فإن ارتفاع أسعار السلع الأخرى، ليس له أي مبرر سوى الجشع واستغلال الحاجة. فالغلاء جرَّ معه حرماناً من عادات اجتماعية عديدة، لأن التزاور الذي يتطلب هدايا وتراحما صار مكلفاً، وتبادل الأطباق الرمضانية صار يُحسب على الآلة الحاسبة قبل أن يُمارس كعادة اجتماعية جميلة وأصيلة لم يرحمها الغلاء، على الرغم من أنها استمرار عذب يعطي للمجتمع فرصة التكاتف وتوطيد العلاقة حتى لو كان الرابط طبق هريس. القضية شائكة ومتداخلة الجذور، والاتهامات كرة تتقاذفها الأطراف، لكن حقيقة الأمر أن التاجر غير معني بهذا المجتمع، ولا يفكر إلا بضربة معلم تعوض سنوات قادمة في شهر واحد! لو كان التاجر مدركاً لأبعاد هذا الجشع وتداعياته الخطرة على كافة الأصعدة، لربما انتبه للجريمة التي يصر علناً على ارتكابها، ولو كان نباتاً مزروعاً في أرض الدولة وترعرع بها. والبعد الحقيقي هنا ليس الغلاء، إنه حق المستهلك أولاً وآخراً في حصوله على سلعة ذات جودة عالية وحقه في حماية الدولة له، وحقه في احترام حقه ومنحه فرصة الاعتراض والسؤال. الأمر ليس محصوراً في الغلاء، فهذا الأخير نتيجة لقوانين مهلهلة وحقوق مهضومة، وإجحاف في حقوق متوسطي الدخل، وبُعد استراتيجي غائب لتطبيق شروط لتفعيل السوق الحر الحقيقي. فلو خاف التاجر من قانون صارم، وقدر حماية المستهلك المتوفرة والمنوطة بجهات مختصة ذات فاعلية، لاختلف الأمر، ولاختلف هذا الاستغلال الذي أشك أن تحدث مجرياته في أي دولة أخرى في العالم - ولما افتقدت طبق هريس جارتي لأنه بات صعب المنال، مرهقا لميزانية متواضعة، اعتادت على العطاء وصدمها الواقع بأن لا حق لها في مجرد الاحتفال بهريس شهي يعلن عن رمضان وكرمه المبارك.