دُعيت والصديق حافظ الميرازي للمشاركة في ندوة حول الإعلام العربي في المنتدى الاقتصادي السابع عشر في بولندا، الذي عُقد في وقت سابق من هذا الشهر. إغراء قبول الدعوة كان ثلاثي الأبعاد, أولها الفضول الذي اعتراني تجاه معرفة هذا الشغف البولندي, ومن ورائه الأوروبي الشرقي, بالإعلام العربي وما يحدث في ساحته إلى درجة تخصيص ندوة كاملة عنه. إذ ضمن عشرات الندوات التي اشتمل عليها المنتدى بأيامه الأربعة ليس هناك أية ندوة لها علاقة مباشرة بالعرب أو بالشرق الأوسط, أو الصراع العربي- الإسرائيلي, ما عدا ندوة الإعلام العربي, وندوة أخرى عن لبنان. لم يكن هناك هوس حول "الإرهاب في الشرق الأوسط" مثلاً, وهو الماركة المسجلة في المؤتمرات والندوات التي تُعقد هنا وهناك في العالم. ولم تكن هناك أية ندوة عن الحرب في العراق وتأثيراتها الاقتصادية, أو مصادر الطاقة الشرق أوسطية, أو مستقبل العلاقات العربية- الأوروبية, أو حتى العربية- البولندية (وهذا بالتأكيد ضعف في برنامج المنتدى). لكن مع ذلك هناك جلسة كاملة حول الإعلام العربي, فما هو سر هذا الاهتمام الغريب بقضية قد تبدو ثانوية؟ الإغراء الثاني لقبول الدعوة هو مكان المنتدى حيث يُعقد في منتجع كرينيتسا في جنوب بولندا وعلى الحدود مع سلوفاكيا. وبحسب بعض خبراء السياحة, فإن المنتجع يعتبر من أجمل المنتجعات في أوروبا الشرقية. والإغراء الثالث هو بولندا نفسها, وما حدث ويحدث فيها, وهي البلد المركزي في أوروبا الآن, ذي الأربعين مليون نسمة, والذي لم يقل مركزية أيام الحرب الباردة, وكان التغير فيه والثورة على الحكم الشيوعي بداية الانهيار للكتلة الشرقية برمتها. تلاقينا في مطار مدينة كراكاو للانتقال بالباص إلى حيث مكان المنتدى, والذي يبعد ثلاث ساعات. وهناك استقبلتنا أمطار غزيرة حظرت علينا التمتع بجمال البلد, واستمرت في إعلان الحظر ذاك طيلة الأيام الثلاثة التي قضيناها هناك. وهكذا تلقينا, وبقية الشريحة القادمة إلى المنتجع, تحت إغراء السياحة والتعرف إلى المنتجع ضربة تحت الحزام! لكن ظللنا ندور حول السؤال اللغز ونبحث فيه وهو هذا الاهتمام بالإعلام العربي في مكان كهذا, وفي تجمع كهذا, حيث الغالبية الكاسحة من الحضور والندوات والمزاج العام تحوم حول الاقتصاد الأوروبي, والتكامل الإقليمي, والعلاقات مع روسيا, والعلاقات مع آسيا الوسطى. ولمزيد من الانقطاع عن الشرق الأوسط وأخباره تم إيواؤنا في فنادق متواضعة ليس فيها إنترنت, وليس بالإمكان تصفح أية مواقع إخبارية صباحية أو مسائية للاطلاع السريع على ما يحدث "هناك". وهكذا بدا لنا الشرق الأوسط وأخباره وحروبه بعيداً وهامشياً جداً. وتندّرنا حول النرجسية الشرق أوسطية التي تجعلنا نحن أهل المنطقة نظن أنها أهم بقعة في العالم, فيما هنا في هذا المنتدى الاقتصادي الأوروبي حيث تحضر الصين وروسيا وأميركا ليس هناك أي أثر شرق أوسطي بيِّن. غاب العرب وغابت إسرائيل, ويبدو قصداً, وابتعاداً عن أي صداع قد تجلبه عليهم موضوعات الشرق الأوسط -ما عدا بالطبع الإعلام العربي! وعندما سألنا المشرِفة على وضع البرنامج عن مغزى اهتمامهم بالإعلام العربي قدمت إجابة كالكلمات المتقاطعة لم نفهم منها شيئاً سوى أنه موضوع مهم. بكل الأحوال كنا مسرورين بالتأمل في الإصرار البولندي على النجاح والظهور بمظهر المنظِّم القدير, رغم العديد من المعوقات, وبواقي ترسبات إدارية من العهود السابقة. لكن ما ينتزع الاحترام هو الإصرار على نقل بولندا إلى مصافِّ الدول الأوروبية الكبرى. وما ينتزع الاحترام أيضاً هو مرونة فكرة الاتحاد الأوروبي وبراغماتيتها كي تستقبل بلداً مثل بولندا (مع الأخذ بالاعتبار طبعاً العوامل الاستراتيجية وأولها الرغبة الغربية في أخراج بولندا إلى الأبد من تحت السيطرة الروسية) وتعطيه الفرصة التدريجية كي يحقق معايير العضوية في ذلك الاتحاد. بمعنى آخر, هناك فجوة كبيرة بين دول أوروبا الغربية الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا من جهة وبولندا من جهة أخرى لزاوية درجة النمو الاقتصادي, ودخل الفرد, ومستوى الخدمات. لكن هذا بالضبط ما تعمل فكرة الاتحاد الأوروبي على تطويره تدريجياً عند الأعضاء الجدد, حيث تضع أمامهم اشتراطات وعتبات عليهم الوصول إليها للانتقال إلى مرحلة لاحقة من مراحل العضوية الكاملة. فمثلاً إلى الآن لم تصل عضوية بولندا في الاتحاد الأوروبي إلى درجة استخدام "اليورو", كما هو الأمر في بقية دول الاتحاد, وذلك بانتظار تناغم السياسات النقدية وترقيتها وكذا التأكد من صلابة واستمرارية النمو الاقتصادي. لا يحدث ذلك, ولا ينتظره الاتحاد الأوروبي كي يحدث, بدافعية ذاتية فحسب, بل هناك دعم هائل وضخم من الاتحاد لبولندا كي تستمر في رفع معايير النمو وتحسين مستويات المعيشة ودخل الفرد وتقليل البطالة كي تصل إلى المستويات التي يشترطها الاتحاد. تأمُّل علاقة الاتحاد الأوروبي ببولندا, وبقية الدول الأعضاء الجدد, نغَّص علينا بقية التأمل لأننا قارنَّا التجربة تلقائياً بفشل تجارب التكامل العربي. السر الأهم في إنجاح مشروعات التكامل هو اقتناع الدول الكبرى والغنية في أي إقليم بأن تنمية وإغناء ورفع مستوى الدول الفقيرة المجاورة لها هو في الواقع خدمة لها كما هو خدمة للدول الفقيرة نفسها. فعندما تتقارب مستويات الدخل القومي العام, ومستويات دخول الأفراد, وتنخفض معدلات البطالة, فإن الاستقرار في الإقليم المعني يصبح ممكناً, وعلى قاعدة سوق إقليمية موسعة وصلبة, وتقل المخاطر الاستراتيجية التي يمكن أن تتعرض لها البلدان الأكبر والأغنى. وعندها أيضاً يصبح بالإمكان فتح الحدود من دون خشية حدوث تنقلات بشرية هائلة تؤدي إلى اختلالات كبرى في سوق العمل أو الإسكان, أو سوى ذلك. لكن طالما وجدت بلدان غنية وأخرى فقيرة جداً مجاورة لها, مثلاً الولايات المتحدة والمكسيك, أو دول الخليج في منطقتنا إلى جوار اليمن ومصر, تظل الهواجس والمخاوف كبيرة و الاقتصادات الإقليمية محدودة التقدم. على كل حال تلك قصص أخرى, ولكن ماذا عن الإعلام العربي, وندوته في هذا المنتجع الجميل في كرينتسيا الذي لم نَرَ منه إلا أمطاره؟ كنا نفرك أيدينا بالطبع بانتظار وقت انعقاد الندوة, وكنا بانتظار التعرف أيضاً على صحفي تركي سيشارك معنا في الندوة, من دون أن ندري ما علاقته بالإعلام العربي هو الآخر؟ المهم أن الأمطار تفاقمت مما دفع بمنظمي الندوة إلى تأجيل موعدها ساعة أخرى لتصبح في السابعة والنصف مساء, أي في موعد العشاء تماماً. ومع ذلك كنا واثقين من أن قاعة الندوة سوف تغص بالبولنديين الشغوفين بمعرفة ماذا يحدث في ساحة الإعلام العربي. توجهنا إلى القاعة وقبل أن نصل إليها لفت انتباهنا أن القاعة المجاورة مزدحمة إلى درجة الفيضان الخارجي بالجمهور, فابتسمنا مطمئنين. لكن انتبهنا إلى أن المتحدث في القاعة المجاورة هو الرئيس التشيكي السابق فاكلاف هافل, وهو يحظى بشعبية أوروبية كاسحة, بكونه كاتباً ومسرحياً أيضاً إلى جانب كونه الرئيس الذي انتقلت تشيكيا على يديه إلى المرحلة الديمقراطية. أسررت لحافظ بأنني أرغب فعلاً أن أستمع له وأنسى موضوع ندوتنا العتيدة, لكنني لم أبحْ برغبتي لمرافقتنا من لجنة تنظيم الندوة. في قاعة الندوة الأنيقة والمجهزة بشاشات عرض كمبيوتر, ومترجمين فوريين من الإنجليزية إلى البولندية لم يحضر أحد. حضر المتحدثون فقط, تبادلنا النكات والابتسامات والصور مع المقاعد الفارغة ومع الجمهور البولندي الغائب, ولم تتُح لنا فرصة سؤاله عن سر عدم اهتمامه بالإعلام العربي, ثم غادرنا تحت المطر.