انبثقت في ذهني فكرة لدعوة المصريين إلى المشاركة في إذكاء باقة الفضائل الوطنية كبديل لحالة السخط العام والنبرة الشاكية من مشاكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية الغالبة في صحف المعارضة ولدى الكتاب في الصحف الرسمية على حد سواء. وقام تعريفي لباقة الفضائل على شعبتين: الأولى شعبة الإبداع العلمي والعقلي والإخلاص في العمل البناء، والثانية شعبة المسالك القويمة المؤسسة على الأخلاق الحميدة والتكافل الاجتماعي. ولبلورة الفكرة راجعت تراث الكتابات التي تعالج سمات الشخصية القومية المصرية عبر حقب التاريخ المختلفة بدءاً بالكتابات الفرعونية وانتهاء بكتاب شخصية مصر، الذي أصدره في الثمانينيات من القرن العشرين الباحث جمال حمدان. عندما أطلقت الفكرة في مقالي الأسبوعي بصحيفة "المصري اليوم" منذ عدة أسابيع، تلقيت ردود أفعال عديدة من كبار المثقفين، تثني على الفكرة لتبديد النظرة السوداوية، من ناحية، وتعمل على إثرائها من ناحية ثانية. ولأنني لا أعتقد أن الحالة المصرية حالة إنسانية منفصلة عن المحيط العربي، فإنني أطرحها في "وجهات نظر" طلباً لمساهمات القراء العرب، فلاشك أن ما يصلح في مصر يصلح في غيرها من الأقطار، لقد رأى بعض كبار المثقفين المصريين أن فكرتي ذات طابع رومانسي، وأنه لكي تكتسب طابعاً واقعياً، فلابد أن تمر المعالجة بالعلاقة بين الحكام والمحكومين باعتبارها أساساً ضرورياً لتهيئة البيئة المصرية لانطلاق باقة الفضائل الإنسانية، وعندما تكاثرت التعليقات التي تجزم أنه من دون توسيع نطاق المشاركة السياسية في تنظيم حياة المجتمع، لا أمل في غلبة الفضائل على مسالك الناس، راجعت تراث البحوث حول سلبيات الشخصية المصرية. وهنا وجدت شبه إجماع في هذه البحوث على أن طبيعة السلطة المركزية ذات القبضة الحديدية (والتي نشأت في وادي النيل كضرورة لتنظيم الحياة على ضفتي النهر والسيطرة على فيضانه المدمر حيناً والتصرف في حالة جفافه حيناً آخر)، هي المسؤولة عن معظم سلبيات الشخصية المصرية، ذلك أن تزايد قوة السلطة المركزية وبطشها دفع المصريين إلى حالة خوف دائم من هذه السلطة من ناحية، وولّد لديهم حافزاً دائماً إلى الالتحاق بصفوفها باعتبار هذا الالتحاق وسيلة لاتقاء غضبها والحصول على حصة من كعكة الثروة الوطنية من ناحية أخرى. من هنا يركز حمدان على أن مفتاح الخلاص من السلبيات، يكمن في توفير حالة ديمقراطية تفتح الباب للمشاركة بين الحكام والمحكومين في رسم سياسات إدارة وتنظيم حياة المجتمع وتوزيع عوائد ثروته الوطنية على نحو عادل. من ناحية ثانية، تلقيت عدداً من التعليقات من مثقفين آخرين تميزت بانتقاد اهتمامي بالطابع الديمقراطي للسلطة، ورأت أن البحث عن التربة المناسبة لإطلاق باقة الفضائل الإنسانية يجب أن يتميز بالأصالة، وينأى بنفسه عن تقليد الحضارة الغربية ونموذجها الديمقراطي، وأن يتجه مباشرة إلى نبع الدين وغريزة التدين المصاحبة للمصريين على طول التاريخ، حيث أن الدين حافز رئيسي لقيم العمل والإبداع العلمي والعقلي ودافع إلى الأخلاق الحميدة والمسالك الصادقة والعادلة والنزيهة والأمينة. لقد شعرت أن محاولة اصطناع فجوة وحالة تناقض بين قيم الدين ونبع التدين من ناحية ونظام المشاركة السياسية من ناحية ثانية، هي محاولة مفتعلة لا تخدم فكرتي. من هنا سعيت إلى استخراج مجموعة المحظورات مع مجموعة المسالك القويمة من كتاب البعث الفرعوني الذي كان يوضع مع المصري في قبره استعداداً ليوم البعث والحساب، وتبين أن المصري القديم كان يستعد لهذا اليوم بنصوص تقول: "لم ألحق الضرر بأي إنسان، ولم أعمل الشر، ولم أقدم مصلحتي الخاصة على واجبي، ولم أتسبب في قتل أحد أو مرضه، ولم أتسبب في فقر أحد بالسرقة أو الغش ولم أخن الأمانة والتزمت دائماً الصدق والعدالة ومحاسبة نفسي". هذه الفضائل قد دعمتها المسيحية ثم عمقها الإسلام في نفس المصري، ولا تناقض عندي بالتالي بين نبع التدين وتعميق نظام المشاركة السياسية لحفز هذه الفضائل في حياة المجتمع وأفراده حكاماً ومحكومين.