أثناء إدلائه بشهادته أمام الكونجرس مؤخراً، بدا الجنرال ديفيد بترايوس متماسكاً، ذكياً، وواعياً بالتحديات التي يواجهها جنوده في العراق. ولكنه في الوقت نفسه بدا وكأنه يجسد ما أصبحت القوات المسلحة الأميركية تمثله في هذا البلد في الوقت الراهن: قوات مسلحة، شجاعة، تحاول جاهدة الاحتفاظ بنفوذها ومصداقيتها بعد مرور أربع سنوات ونصف على بدء مهمة بدت سهلة في البداية، قبل أن تنحرف عن مسارها بعد ذلك. وبترايوس ليس هو القائد العسكري الأخير، الذي سيجد نفسه يشرح للكونجرس الأسباب التي أدت إلى إخفاق مهمته، ويحاول أن يقنعه بأن تلك المهمة لا تزال أمامها فرصة للنجاح، حيث ستكون هناك دائماً حرب تالية تلوح في الأفق. هل ما زال بالإمكان وقوع حرب أخرى؟ إذا ما أعدنا النظر، فسنجد أن "الصقور" في مكتب ديك تشيني الذين لم يرتدعوا بسبب الإخفاق الذي تعرضوا له في العراق، لا يزالون يدفعون باتجاه استخدام القوة في التعامل مع إيران. وليس من الصعب التنبؤ بقائمة الخيارات العسكرية التي ستكون متاحة أمام صناع القرار الأميركيين في هذا الصدد. فحرب قادمة من هذا القبيل ستبدأ بحملة جوية وعسكرية مكثفة، تستمر لمدة 21 يوماً للحيلولة بين إيران وبين توجيه ضربة انتقامية. وستشمل قائمة الأهداف التي ستتم مهاجمتها خلال تلك الحملة عشرات المواقع النووية، ومواقع القيادة والسيطرة، ومواقع الرادار، والمستودعات، والمطارات، والموانئ العسكرية. وللحيلولة دون ارتفاع أسعار النفط العالمي إلى مستويات قياسية، يجب على القوات الأميركية أن تعمل على حماية منصات إنتاج النفط والغاز، والموانئ الكبرى ونقاط التحميل في المنطقة. كما ستضطر القوات المسلحة الأميركية أيضاً إلى استخدام الطائرات القاذفة الثقيلة من طراز B-2s، والعديد من أنواع الصواريخ الموجودة بالقرب من الجبهة، بالإضافة إلى القيام بالعديد من المهام البرمائية، وعمليات الاستطلاع الجوي، واستخدام قوات خاصة للتوغل داخل إيران، والحصول على الأدلة التي تثبت وجود برنامج نووي عسكري إيراني. ولكن إذا ما كانت الكيفية التي ستبدأ بها الحرب ضد إيران واضحة، فإن الكيفية التي ستنتهي بها ستكون أقل وضوحاً. فليس من الواضح مثلا كيف سترد إيران على تلك الضربة العسكرية؟ هل ستطلق خلايا "حزب الله" في أوروبا والشرق الأوسط وفي الولايات المتحدة ذاتها؟ وهل ستعمل على تحريض شيعة العراق على الثورة ضد الغزاة الأميركيين؟ ثم، وهذا هو الأهم، ما الذي سنفعله نحن مع إيران بعد أن يتوقف القصف؟ وكيف ستكون إيران بعد ذلك القصف: هل ستبدو كدولة تعرضت إلى التأديب وأصبحت ليِّنة العريكة، أم دولة فاشلة تنتشر فيها الفوضى؟ أم كعدو خرج من التجربة أكثر مرارة وأكثر صلابة؟ وليست إيران هي الدولة الوحيدة التي قد تخوض الولايات المتحدة حرباً ضدها في المستقبل.. حيث يمكن أن تبرز قوة عظمى جديدة، أو على الأقل منافس قوي لها، كما يمكن لتلك الحرب أن تقع في مكان آخر غير متوقع على الإطلاق. بيد أن الشيء الذي لاشك فيه هو أن شكل أي حرب لأميركا في المستقبل سيتأثر بتجربتيها في العراق وأفغانستان. وهنا يجب أن نستخلص الدروس من هاتين الحربين وأن نفعل ذلك بالشكل الصحيح، وفوراً. إن أهم درس يمكن استخلاصه من هاتين الحربين هو: ألا نذهب إلى حرب أبداً ما لم نكن قادرين على وصف الحالة النهائية المرغوبة، وعلى تحقيق تلك الحالة، وأن ندرك أن إنجاز ذلك كله سيحتاج إلى ما هو أكثر من استخدام القوة. ومن الدروس الأخرى التي يمكن أن نستخلصها من الحرب في العراق وأفغانستان -وفيتنام أيضاً- أننا سنكون بحاجة إلى حماية قواتنا. فأكثر ما يقلق الشعب الأميركي ويغير مشاعره ضد أية حرب هو أن يتعرض لخسائر في الأرواح، وهو ما يعني أننا كي نحافظ على مقدرتنا على البقاء في ميادين القتال فإننا سنكون بحاجة إلى تحقيق التوازن بين قدرتنا على مطاردة وقتل أعدائنا وبين قدرتنا على حماية جنودنا. وينقلنا هذا إلى القادة العسكريين. فنحن في حاجة إلى جنرالات ذوي تعليم حسن، مرنين، ولديهم القدرة على التكيُّف الثقافي أي التكيف مع البيئات التي سيقودون قواتهم فيها، وليس مقاتلين أو تقنيين فقط. علينا أيضاً ألا نقسو على أنفسنا أكثر من اللازم. فالقوات المسلحة الأميركية تتفوق بما لا يقاس على أي قوات مسلحة أخرى في العالم من ناحية المهارات والمعدات والتماسك. هناك نقطة أخيرة وهي أن القادة العسكريين يجب أن تكون أمامهم عندما يبدأون حرباً خريطة طريق للنجاح، أو تعريف محدد لما يعنيه النصر، على أن يدركوا أن واجبهم هو كسب الحرب وليس مجرد الاستمرار في القتال، وأن يتسلحوا بصفات من بينها بُعد النظر، وقوة الشخصية، والبصيرة، التي تمكنهم من طلب الموارد التي تعينهم على تحقيق النصر، وأن تكون لديهم الشجاعة التي تمكنهم من الإصرار على الحصول على تلك الموارد، أو الاستقالة إذا لم يحصلوا عليها. والأهم من كل ذلك أن نفهم كأميركيين أن الغرض من أي حرب نخوضها هو تحقيق هدف محدد لأمتنا. وبهذا الخصوص فإننا يجب أن نعرف أن القوات المسلحة ليست سوى أداة من أدوات الحكم يجب أن تعمل بالترادف مع الدبلوماسية، والاقتصاد، والاستخبارات، وغيرها من أدوات القوة الأميركية. إن الدرس الكبير الذي يجب أن نتعلمه هو أن الحرب يجب أن تكون الخيار الأخير، لأنها عادة ما تجلب المآسي وقليلاً ما تجلب المجد.. وليس هناك تعبير عن ذلك أفضل من التعبير الذي جاء على لسان أحد الجنرالات حين قال: إن أفضل حرب هي تلك التي لا تضطر لخوضها، وأفضل قوات مسلحة هي تلك التي تمتلك القوة والمرونة الكافيتين اللتين تمكنانها من الحيلولة دون اندلاع الحرب التالية. ويسلي كلارك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ القائد الأعلى السابق لحلف "الناتو" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"