نلخص اليوم ونستعرض الأفكار الأساسية في كتاب "صيت الديمقراطية: نهوض ومخاطر أكثر أشكال الحكم شعبية في العالم"، وهو من تأليف مايكل ماندلباوم، خبير الشؤون الخارجية بجامعة جونز هوبكنز ومؤلف كتاب "الأفكار التي هزمت العالم". ويعد كتابه الحالي من آخر وأعمق الدراسات النقدية حول اتساع وتنامي انتشار الديمقراطية على النطاق العالمي، بتركيز خاص على أنماط التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط وروسيا والصين. وفي رأيه أن العقود الثلاثة الأخيرة الماضية، شهدت تسارعاً وصعوداً ملحوظين للديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، ما يجعلها الظاهرة الأكثر إثارة للاهتمام في مجمل التطورات التي شهدها التاريخ البشري الحديث. فعلى سبيل المثال لم يزد عدد الدول الديمقراطية حتى عام 1900 على عشر دول فحسب، بينما لم يزد عدد هذه الدول على 30 دولة حتى عام 1975. وبلغة الإحصاء نفسها، فإنه يمكن القول إن هناك اليوم 119 دولة من مجموع دول العالم البالغ عددها 190 دولة، تتبنى هذا النهج وتسير عليه. والطريف في هذا التحول، كما يقول الكاتب، أن الديمقراطية ظلت كائناً غريباً على العالم حتى وقت ليس بالبعيد، وهو عالم يسوده حكم الأقليات والديكتاتوريات والإمبراطوريات. وبدلاً من تمثال الحرية الذي يزين ساحة واشنطن اليوم ويرمز إلى رسوخ التجربة الديمقراطية فيها، فقد كان من أشد منتقدي الديمقراطية الآباء المؤسسون لأميركا، والذين نعتوها بأنها نمط حكم الدهماء والطغيان الديماغوجي. فمن أين اكتسبت الديمقراطية هذا الصيت؟ وما الذي يفسر انتشارها على كل هذا النحو والسرعة؟ هذا هو الشق الأول من الأسئلة التي أثارها المؤلف وأجاب عنها في كتابه هذا. أما الشق الثاني فهو من شاكلة: لماذا بقيت دول كبرى وذات وزن من دون أن تتحول إلى ديمقراطيات؟ ولماذا تخفق جهود ومحاولات تصدير نمط الحكم الديمقراطي إلى الدول الأخرى، بل لماذا تسوء الأوضاع أكثر مما كانت عليه قبل الجهود والمحاولات تلك؟ وأثناء إجابته عن هذه الأسئلة بشقيها، يحلل الكاتب إمكانات ومخاطر نشر الديمقراطية على نطاق أوسع، لتشمل دولاً مثل روسيا والصين، وصولاً إلى العالم العربي. ذلك أنه أصبح مستحيلاً على هذه الدول والمناطق الإقليمية أن تبقى على عزلتها ونشازها خارج هذا المد الهائل من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجمع ما بين الحرية والسيادة الشعبية وحكم الأغلبية، والحرية الفردية، خاصة وأنه المد الذي يطغى على سياسات العالم بأسره اليوم. ومما لاحظه ماندلباوم أن هناك نماذج للديمقراطية أصبحت بمثابة صرح أو مثال تتطلع بقية دول العالم وشعوبه لاستنساخه، مثلما هو عليه حال النموذجين البريطاني والأميركي. وأهم ما تتسم به هذه النماذج الباهرة، أنها أكثر غنى وقوة واستقراراً من غيرها من النماذج والتجارب الديمقراطية. كما لاحظ المؤلف أيضاً أن انتشار السوق الحرة عادة ما يكون أقرب إلى توفير "مدرسة للديمقراطية" متكاملة للشعوب والأمم. ذلك أن ميزة هذه الأسواق أنها تقر حق الملكية الخاصة –وهي أساس جميع الحريات- فضلاً عن إرسائها لاحترام وسيادة القانون، ولمؤسسات المجتمع المدني ودورها في تنظيم وإدارة المصالح الاقتصادية في المجتمع. فكل هذه مزايا فرضت هذا التلازم القائم ما بين الديمقراطية والأسواق الحرة، وجعل من الأولى نظاماً سياسياً قائداً على النطاق العالمي. ومما أثاره ماندلباوم أن الديمقراطية تتألف من عنصرين رئيسيين هما الحرية والسيادة الشعبية. ومن رأيه أن مفهوم الحرية يشمل على الصعيدين النظري والعملي ما تضطلع به الحكومات: سيادة القانون، حماية المواطنين من إساءة الدولة لاستخدام سلطتها، إضافة إلى وضع اللوائح والقوانين التي تعمل بموجبها المؤسسات الحكومية. أما السيادة الشعبية أو إرادة الأغلبية، كما يسميها، فتتضمن بين عدة عناصر أخرى، الكيفية التي يختار بها الشعب من يحكمه عبر الانتخابات الحرة النزيهة. وعليه فمن رأي ماندلباوم أن ما يجري في العراق الآن، إنما يرمز إلى تلك الحالة التي تجرى فيها الانتخابات في ظل غياب الحرية. والنتيجة الطبيعية هي أن ينتهي الأمر إلى سيادة استبداد الأغلبية وتغييب الديمقراطية الحقيقية. ومما قال به ماندلباوم في إطار مناقشته لدور العامل الخارجي في حفز الديمقراطية وبنائها في دولة ما من الدول، مثلما هو حادث الآن في العراق وأفغانستان، إن في وسع أميركا وغيرها من الدول الأخرى تقديم يد العون في تهيئة الظروف والمناخ الملائمين لغرس الديمقراطية وتمكين جذورها من الغوص عميقاً في تربة بلد ما. غير أن الذي يبقى خارجاً عن الإرادة الأجنبية، أن يختار الشعب نفسه تطوير المهارات ونشر القيم الكفيلة بنمو ذلك الغرس وازدهاره في التربة المحلية. ومن رأي المؤلف كذلك أن إحدى الوسائل التي يمكن بها حفز تجارب التحول الديمقراطي للأمم والشعوب، هي العمل على بناء وازدهار السوق الحرة. ويدعم ماندلباوم رأيه هذا بالقول إن في وسع "اقتصاد السوق" أن يجعل للمواطنين سهماً في بناء السلام فضلاً عن تعليمهم أساسيات الممارسة الديمقراطية وأصول الثقة المتبادلة وفنون التفاوض والتنازلات وتشرب ثقافة التصالح والسلام بديلاً لثقافة العنف والبندقية. ولكن هل يفهم من هذا أن نمط السوق الحرة يؤدي مباشرة إلى الديمقراطية؟ وهل يصح كذلك هذا الحكم المطلق الذي أصدره المؤلف على نمط الحكم الأميركي، بعد كل التشوهات والخدوش التي ألمت به مؤخراً؟ عبد الجبار عبدالله ــــــــــــــــــ الكتاب: صيت الديمقراطية: صعود ومخاطر أكثر أشكال الحكم شعبية في عالمنا المؤلف: مايكل ماندلباوم الناشر: دار "بيرسيوز" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2007