تعرّف الديمقراطية في الأساس بسيادة القانون على كافة مؤسسات الحكم فيها، وبحماية الحريات الأساسية وحرية الأفراد، فضلاً عن مساواة الجميع أمام القانون. وفيما نذكر فقد زعم الرئيس جورج بوش وحليفه البريطاني توني بلير، أن الدافع الرئيسي لغزوهما للعراق هو التزامهما بتطبيق النهج الديمقراطي وسيادة القانون في بلاد الرافدين، وهو ما يبرر الغزو ويكسبه مشروعيته. بيد أن الأدلة تزداد يوماً إثر الآخر على تجاهل هذين الحليفين المستمر لسيادة القانون الدولي، وعلى تحالفهما على غش شعبيهما وشعوب العالم بأسرها. وقد أضافت آخر المحاكمات القضائية التي نظرت فيها المحاكم، أدلة إضافية على ما توفر أصلاً من شواهد على صحة هذا القول، سواء الوارد منها من آراء المطلعين على القانون والعارفين به، أم من خلال الإفادات والشهادات القانونية التي قدمت في الكشف عن السلوك المخزي لهذين الحليفين، فضلاً عن وقوف كل هذه الأدلة شاهداً على ضرورة صيانة سيادة القانون. ففي شهر يونيو المنصرم، أصدر مجلس "العموم" البريطاني قراراً نص على ضرورة التزام بريطانيا بتطبيق قانون حقوق الإنسان، بما في ذلك التزامها بتطبيق نصوص المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، فيما يتصل بقضية مواطن مدني عراقي توفي أثناء حبسه في السجن تحت مسؤولية القوات البريطانية، تحت تأثير ما يزعم عن تعرضه للتعذيب. ومن جانبه أعرب محامي الدفاع عن الضحية العراقية عن أهمية ذلك القرار بقوله:"من الآن فصاعداً، سيُساءل الجيش البريطاني عن سلوكه متى ما خضع شعب ما لنفوذه وقوته، سواء حدث ذلك في البصرة أم في برمنجهام". وفي وقت مبكر من العام الحالي، دعا القاضي الإسباني "بالتزار جارزون"، الذي سعى وراء تسليم الديكتاتور الأرجنتيني الأسبق أوجستو بينوشيه، إلى إجراء تحقيقات في المسؤوليات الجنائية للرئيس بوش وحلفائه، بشأن جرائم الحرب المرتكبة في العراق. وفي مقال كتبه بمناسبة الذكرى الرابعة للحرب على العراق، قال القاضي جارزون:"إن انتهاك كافة القوانين الدولية، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، على نحو ما نراه حادثاً في العراق منذ عام 2003، اعتداء سافر على سيادة القانون ومخالفة صريحة لجوهر معنى وجود الأسرة الدولية نفسها". ثم مضى "جارزون" مستطرداً في القول:"إن علينا أن ننظر بعمق إلى احتمال وجود مسؤولية جنائية ما لأولئك الذين تحملوا أو لا يزالون في موقع المسؤولية عن شن هذه الحرب وتسييرها، وفيما إذا كانت هناك أدلة كافية لمساءلتهم عن الجرائم الجنائية المرتكبة في الحرب". وفي شهر مارس المنصرم أيضاً، قال "مورينو-أوكامبو" رئيس الادعاء بمحكمة الجزاء الدولية، إنه ربما يواجه كل من الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، اتهامات تتعلق بجرائم الحرب ذات يوم. وقال أيضاً إن في وسع محكمة الجزاء الدولية، التحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب في العراق، فيما لو صادقت الحكومة العراقية على الانضمام إلى معاهدة روما التي أنشئت بموجبها محكمة الجزاء الدولية. وفي شهر أكتوبر من العام الماضي، وثقت صحيفة "الجارديان" البريطانية لقضيتين قانونيتين جد مهمتين. المدعى عليهم في إحداهما عدد من ناشطي السلام، اقتحموا القواعد العسكرية التابعة لسلاح الطيران الملكي، وحاولوا تدمير طائرات B52 الأميركية المقاتلة. أما الثانية فكان المدعى عليهم فيها ناشطون تمكنوا بالفعل من إلحاق دمار بعدد من الشاحنات الأميركية، في مسعى منهم لوقف ارتكاب المزيد من جرائم الحرب في العراق. وقد قدم هؤلاء جميعاً تحت لائحة اتهامات بالتآمر على ارتكاب التخريب الجنائي. وفي كلتا القضيتين أخفقت هيئة المحلفين في التوصل إلى حكم قضائي بحق المتهمين. وكان قد سمح للمدعى عليهم في كلتيهما، بالدفاع عن أنفسهم وإظهار كيف أنهم كانوا يسعون إلى وقف ارتكاب جرائم بعينها، مثل إطلاق طائرة B52 الأميركية للقنابل العنقودية والمقذوفات التي تحتوي على اليورانيوم المنضب. وعلى إثر دفاع المتهمين عن أنفسهم، خاطب القاضي هيئة المحلفين قائلاً "إن استخدام أنواع من الأسلحة تلقي بتأثيراتها المدمرة والضارة على المدنيين، بما يتجاوز الحاجة لتحقيق أهداف عسكرية، إنما هو جريمة حرب". ولنذهب أبعد من هذا، إلى إخلاء المحكمة الفيدرالية الألمانية سبيل رائد في الجيش الألماني وتبرئة ذمته من جميع التهم الموجهة إليه، والمتعلقة بعدم رضوخه للأوامر العسكرية الصادرة إليه، رفضاً منه لتوريط نفسه في الحرب على العراق، وفقاً لما اعتمد عليه دفاعه القانوني عن نفسه. وجاء في قرار الهيئة القضائية التي أبرأت ذمة العسكري المتهم أن استخدام القوة لا تجيزه نصوص ميثاق الأمم المتحدة إلا في حالتين اثنتين فحسب، هما الدفاع عن النفس، أو حين يصرح بذلك مجلس الأمن الدولي. وكان من رأي القضاة الألمان أن الدول الغازية للعراق لم يتوفر لها تفويض دولي كهذا، وعليه فإن في الإمكان اعتبار تلك الحرب عدواناً على سيادة دولة من الدول. وكما نذكر فقد شجب الأمين العام السابق للمنظمة الدولية كوفي عنان، صراحة سياسة الضربات الاستباقية واصفاً إياها بخطر إرساء سوابق لانتشار الاستخدام الأحادي وغير المشروع للقوة. كان ذلك في سبتمبر من عام 2004. وفي سبتمبر من العام نفسه، أجرت معه هيئة "بي بي سي" حواراً بث في الخامس عشر من الشهر المذكور، قال فيه علناً:"من وجهة نظرنا .. ومن وجهة نظر نصوص ميثاق الأمم المتحدة، فإن هذه الحرب –أي الحرب على العراق- ليست شرعية". وهكذا تتنافى الممارسة العملية لقادة الحرب ومروجيها، مع الأهداف التي شنت من أجلها، بل ومع أحكام وأعراف القانون الدولي جميعها.