أزمة الرهن العقاري ذي التصنيف الائتماني المنخفض الحالية في جوهرها أزمة ائتمان ناتجة عن الفوضى العالمية في الإقراض والاقتراض. وهذه الأزمة هي الأخيرة في سلسلة مشابهة من الأزمات. والسؤال الذي يتردد الآن: ما هي الجهة التي يجب أن نوجه لها اللوم؟ والجواب هو: البشر أولاً، والسياسات العامة حسنة النية ثانياً، و"وول ستريت" ثالثاً. من الممكن لشخصين أحدهما مُقرِض والثاني مُقترض أن يتعاملا معاً من دون أن يتسببا في ضرر لنفسيهما أو في الاقتصاد من حولهما. أما عندما يتم هذا التعامل بين كُتل من المقرضين والمقترضين، فإن المسألة لا بد وأن تنتهي بأزمة كما هو حاصل الآن. ليس فقط بالنسبة للرهن العقاري وإنما بالنسبة للعديد من الأدوات الائتمانية. أولاً: فيما يتعلق بعملية الائتمان: يحدث أحياناً أن هذه العملية تتم بإفراط إلى أن تصبح العلامات والمؤشرات الدالة على ذلك واضحة بشكل لا يمكن تجاهله، وبدرجة تدفع المتعاملين في الائتمان إلى التراجع عن كل ما قاموا به أو إلغائه. ويُطلق على ذلك- الإفراط في الائتمان ثم التراجع عنه-اسم "الدورة الائتمانية" أي التنقل الدائم للمقرضين والمقترضين بين أقصى درجات التساهل وأقصى درجات التشدد الائتماني. ويمكن القول في هذا السياق إن الأمر لا يحتاج لبنك مركزي ولا ضمانات رهن، ولا لـ"صناديق التحوط" Hedge funds حتى يمكن إحداث حالة من الهلع، إذ تثبت وقائع التاريخ أن هناك حالات عديدة لذلك الهلع قد وقعت دونما حاجة لوجود مثل هذه الأدوات المالية الحديثة. وعلى الرغم من اختلاف حالات الاضطراب في أسواق الأوراق المالية في التفاصيل، فإنها تتشابه من حيث الجوهر. غير أن بعض المراقبين يصرون مع ذلك على أن الاضطرابات الحالية غير مألوفة. لا يرجع السبب في نظر هؤلاء إلى أن تأثير الخسائر الضخمة التي حدثت هذه المرة كان محسوساً خارج الأسواق المالية الأميركية، أو أن مؤسسات الإقراض لدينا تتصف بقدر كبير من الاستهتار، لأن الهلع الذي شعر به الناس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان محسوساً أيضاً خارج الأسواق المالية الأميركية وعبر المحيط الأطلسي، ولأن مؤسسات الإقراض في العشرينيات من القرن الماضي لم تكن أقل استهتاراً ولا إثارة للريبة في ممارساتها المالية من مؤسسات الإقراض الحالية. أزمتنا الحالية ستحتل مكانها في صفحات التاريخ لأسباب مختلفة تماماً: السبب الأول هو حجم الرهونات العقارية. والثاني هو ذلك العدد المفزع من حالات العجز عن السداد على الرغم من انخفاض معدلات البطالة والنمو الاقتصادي القوي. أما العامل الثالث، فهو تلك السرعة التي شعرت بها البنوك المركزية بالحاجة للتدخل. وهنا قد يثور سؤال: ما هو السبب في ضعف أسواقنا الائتمانية في الأصل، وما هو السبب الذي يجعل "الاحتياطي الفيدرالي" يشعر بضرورة الحجة إلى التدخل عند اضطراب السوق؟ إن السبب في ذلك يرجع إلى الفكرة التي ترسخت في ثلاثينيات القرن الماضي، وكانت تبرز دوما في كل أزمة من الأزمات المالية، التي مر بها العالم منذ ذلك الوقت، وحتى الأزمة الحالية. هذه الفكرة هي أنه في حين أن الأرباح والفوائد التي تترتب على عملية الائتمان يمكن أن تصب في مصلحة الدائنين والمدنيين معاً، فإن الأخطار الكامنة في تلك العملية يجب أن يتحملها المقترضون فقط. لمزيد من التوضيح علينا هنا أن نتذكر ما فعله "الاحتياطي الفيدرالي" في سياق تأثره بتلك الفكرة خلال العقد الماضي. فتحت رئاسة "آلان جرينسبان"، حاول "الاحتياطي الفيدرالي" التصدي لهبوط الأسعار في كل مكان، حيث تدخل لإنقاذ الأسواق المالية عام 1998 ، ثم قام بطبع النقود عامي 2002 و2003 لإنقاذ الاقتصاد نفسه. ولكن إنقاذه من ماذا؟ من خطر الانخفاض المتواصل في الأسعار أوالانكماش. في هذه المهمة- على الأقل- يمكن القول إن "الاحتياطي الفيدرالي" قد نجح. حيث رأينا أن ما قام به قد أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار العقارات، مما يرجع إلى حقيقة مفادها أن الناس، ونتيجة لأنهم كانوا يدركون أن "الاحتياطي الفيدرالي" سيبذل كل ما في وسعه للتحكم في الأسعار المتزايدة، قاموا بالتصرف بأسلوب رشيد، وأقدموا على اقتراض الكثير من الأموال بأسعار الفائدة البالغة الانخفاض التي كان "الاحتياطي الفيدرالي" قد حددها. وما يحدث الآن هو أن أوان دفع فاتورة ذلك قد حل. وهو لم يحل وحده بالطبع، ولكنه ترافق أيضاً مع العديد من الشكاوى والصرخات والدموع التي تناشد "الاحتياطي الفيدرالي" بالاضطلاع بالمزيد من الإشراف على الأسواق وتوفير الحماية. ولكن ما نراه الآن هو أن "بن أس. بيرناكي" خليفة "جرينسبان" في رئاسة "الاحتياطي الفيدرالي"، والذي كان ذراعه اليُمنى خلال هستيريا التصدي للانكماش يرفض المطالب الداعية إلى تخفيض معدل الفائدة. ولكن لماذا يفعل الرجل ذلك؟ ربما لأنه يؤمن أن الرأسمالية من دون فشل مالي وأزمات مالية، لن تكون رأسمالية على الإطلاق، وإنما شكل من أشكال اشتراكية الأغنياء. على أية حال، فإن "الاحتياطي الفيدرالي" مدين لنا جميعاً-أغنياءً أو فقراءً- بأنه سيفعل كل ما في وسعه، وأن من أوائل الأشياء التي يجب القيام بها من أجل استقرار الاقتصاد وازدهاره، هو التأكد من أن أي جهة لن تحاول التلاعب بالأسعار. الاقتصاد الفيدرالي الأميركي يستطيع عبر استخدام الحيل المتعلقة بأسعار الفائدة أن يوجد واقعاً يوحي مظهره بالاستقرار اليوم لكن لنعلم أن ذلك سيؤدي حتماً إلى عدم الاستقرار غداً. وللأسف، وبالنظر إلى ما يبدو أمامنا حالياً، فإن هذا الغد لم يعد بعيداً، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه قد بدأ يُطل علينا بالفعل. جيمس جرانت ـــــــــــــ صحفي أميركي متخصص في الشؤون المالية ــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"