لم يكن مفاجئاً لأحد في سوريا أن تقوم إسرائيل باعتداء عليها عبر اختراق طائراتها للأجواء السورية، فقد كان الشارع السوري يتوقع عدواناً إسرائيلياً تحدثت صحف العالم عن تحضيرات إسرائيل له منذ شهور، وقد توقعت أن تقوم إسرائيل بعمل ما حين أجمع وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير في القاهرة على ضرورة عدم استبعاد سوريا ولبنان من المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس جورج بوش، وجعلوا تأييدهم للمؤتمر مشروطاً بهذا الحضور، وكان واضحاً أن إسرائيل التي رفضت خلال عقود أية تسوية شاملة، سترفض أن تحاور العرب مجتمعين، فهي تريد تجزئة الحلول وتهميشها، وقبيل الاجتماع بساعات أعلنت وزيرة الخارجية الإسرائيلية ضرورة خفض سقف التوقعات من المؤتمر الذي قيل إن رايس أرادت أن ترفع سقفه، ولم يكن واضحاً كيف يمكن أن يرتفع سقف التوقعات من مؤتمر تغيب عنه الأطراف الرئيسة في القضية. المهم أن إسرائيل قامت باعتداء على الأجواء السورية بوسع المحللين اعتباره رداً على التأييد العربي المشروط للمؤتمر، ويمكن فهمه كرسالة تقول: لا نريد أن تشترك سوريا في المؤتمر. ولقد تابعت في الصحف الإسرائيلية تعليقات متنوعة حول العدوان الأخير، وكان واضحاً أن هناك تعبئة ضد سوريا، بل إن أحد الكتاب الإسرائيليين وجد ضرورة أن يستعيد الجيش الإسرائيلي مكانته بعد الفشل في لبنان في العام الماضي. ولن أتجاهل أن بعض الكتاب الإسرائيليين أشادوا بحكمة سوريا التي لا تريد أن تجر المنطقة والعالم إلى حرب كبرى، لكن التردد الإسرائيلي في إيضاح ما حدث، انتهى إلى ما يثير القلق؛ فقد بدأت معزوفات إعلامية أميركية تقول إن الطائرات استهدفت مواقع عسكرية إيرانية سورية يشتبه بوجود مواد نووية فيها قادمة من كوريا الشمالية، وكتبت "نيويورك تايمز" في عددها الأربعاء الماضي إن الإسرائيليين يعتقدون بوجود مواد نووية في المواقع التي استهدفوها. والعجيب أن تعاني المخيلة الإعلامية الصهيونية من هذا الفقر الذهني الذي يدعوها إلى استخدام ذات الأقاصيص والخدع التي سبق لها استخدامها مرات، وقوبلت باستهجان دولي بعد انكشاف سخفها. ومن الواضح أن هذه التعليقات تنبئ ببدء حملة إعلامية تبريرية جديدة لما أظن أن إسرائيل تستعد له من عدوان جديد تبحث له عن ذرائع، يكون من بعض أهدافه إفشال مؤتمر السلام وخفض سقف توقعاته بافتعال ظروف معطلة جديدة. وليس مفاجئاً لنا خوف إسرائيل من السلام؛ فقد تهربت كثيراً من مؤتمر مدريد، وتمكنت من إفشاله حين لم تقبل بحل عادل وشامل ونهائي، وتمكنت من إفشال "أوسلو" حين بحثت في القضايا الثانوية وتركت ملف القضايا الكبرى مثل القدس واللاجئين والمستوطنات إلى أجل غير مسمى، وتمكنت من إفشال كل مساعي الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي التي قدمت حلولاً قبلها العرب ولو أن إسرائيل قبلت بها منذ أن صدرت لكان السلام قد تحقق منذ سنين طويلة، كما تمكنت من إفشال مساعي "اللجنة الرباعية"، بل كانت ترفض تدخل الاتحاد الأوروبي، وتتعامل مع الأوروبيين بضيق بلغ ذروته حين عبر هؤلاء عن رؤيتهم لإسرائيل بوصفها خطراً على السلم العالمي، وحين دعت بعض الجهات المنصفة في أوروبا إلى محاكمة شارون بوصفه مجرم حرب، وحين تهكمت عقول أوروبية نيرة من الرواية الأميركية لجريمة 11 سبتمبر. وقد وجهت إسرائيل كل طاقات اللوبي الصهيوني العالمي لتحسين صورتها في أوروبا، لكن بقي قبولها بدور أوروبي لتحقيق السلام موضع ريبة عربية وأوروبية أيضاً. بل إن إسرائيل أجهضت الرؤيا "السماوية" للرئيس بوش حول إقامة دولة فلسطينية مقابل الدولة الإسرائيلية. وإذا كان الرئيس بوش الذي اعتبر إقامة دولتين تكليفاً إلهياً، يريد أن يحقق الوصية قبل أن يغادر البيت الأبيض، فإن الإسرائيليين يريدون منه خفض التوقعات كيلا يصاب بخيبة أمل، ولعلهم يقولون في سرهم: ألم تر كيف ودعنا كلينتون؟ وقد بدأت صحافتهم تنسج لبوش حكاية النهاية، وفضائح الوداع. وبوسع الرئيس بوش أن يتساءل: هل يبيع الإسرائيليون موقفاً ذهبياً لرئيس راحل؟ وهل تقدم إسرائيل مجداً تاريخياً لرئيس يفقد شعبيته، ويحمله الكونغرس مسؤولية كبرى حول ما قاد إليه الولايات المتحدة من حروب بلا أهداف، جعلت العالم كله، وليس العرب والمسلمين فقط، يكرهون أميركا، بل إنهم يحملونه مع العالم مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الإنسانية في العراق، ومسؤولية ازدياد خطر الإرهاب بدل الحد منه أو القضاء عليه! وبوسع المحللين أن يتساءلوا: هل يمكن أن تمضي إسرائيل إلى مؤتمر للسلام يجعل حرب يوليو 2006 آخر حروبها؟ وهل بوسع إسرائيل أن تتخلى عن الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وعن كل الأراضي التي احتلتها عام 1967 وتعود إلى داخل السور؟ لقد قال شيمون بيريز مرة إن العودة إلى حدود 1967 تعني نهاية إسرائيل، لكن بيريز وجنرالات إسرائيل يعرفون جيداً أن للسلام ثمناً، وعلى من يريد أن ينعم بالسلام حقاً أن يدفع ثمنه، وحسبهم أن العرب في مبادرتهم التاريخية يعطون لإسرائيل ما لم يكن يحلم به بن غوريون وغولدا مائير، وإن كان بعضهم يرى أن الظروف التي وصل إليها العرب خلال الأربعين عاماً الماضية من التردي، قد أفقدتهم قدرة الممانعة، وأن بوسع إسرائيل أن تحصل منهم على مزيد من التنازلات لكونهم متفرقين بل وصلوا إلى حال من الضعف منع بعضهم حتى من إظهار الاستنكار لعدوان إسرائيل الأخير على سوريا، حيث صمت بعض أشقائها ولم يصدروا أي تعليق. لكن ما يرونه هو مجرد القشرة الخارجية للأمة العربية، وعليهم أن يقرؤوا قراءة تحليلية ما تحت القشرة. ولن أسرف في التفسير، فحرب الصيف في لبنان كشفت الغطاء، كما أن موقف المقاومة الفلسطينية يكشف قوة ما تحت القشرة، وأما موقف المقاومة العراقية فقد تعرض لتشويه كبير عبر خلط الإرهاب الصهيوني به وعبر زرع الفتن الطائفية للتشويش عليه، ورغم ذلك فقد حقق حضوراً وطنياً مدهشاً، وشعب سوريا من ذات الطراز الوطني بامتياز، وقد عبر عن قدرته الضخمة على التضحية والصمود في كل المعارك القومية، وسيكون أكثر قدرة على التعبير حين يكون الموقف دفاعاً عن سوريا. لقد قبلت سوريا منذ انتهاء حرب أكتوبر أن تضع السلام بديلاً عن الحروب، لكن إسرائيل تخاف من أن يحدد السلام حدودها، وأن يقضي على فكرة الإمبراطورية اليهودية الصهيونية، وأن يجبرها على إعادة الحقوق العربية إلى أصحابها، وهذا ما يجعلها تسارع لإفشال أية خطة أو مؤتمر للسلام، وهي تريد من العرب استسلاماً كاملاً، وإذعاناً مطلقاً، عبر إشعال مزيد من الفتن في الجسد العربي، وإنهاكه بالخلافات الدينية والمذهبية والعرقية التي يستجيب لها بعض الجهلاء. إن جر المنطقة إلى أتون حروب جديدة، والبحث عن ذرائع لها، سينسف كل الجهود الدولية لإحلال السلام في المنطقة، والمجتمع الدولي يدرك أن سوريا جادة في البحث عن السلام، لكنها ليست دولة مستضعفة تستطيع إسرائيل أن تخيفها. إننا نخشى أن تقود إسرائيل بحماقة الضعفاء، العالم كله إلى دمار جديد فوق ما تعاني منه الإنسانية من ويلات الحروب. ومن يقرأ التاريخ المعاصر سيجد أي دور فظيع ومريع لعبته الصهيونية في إشعال الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن الماضي، وندعو الله أن يجنب البشرية خطر ما تسعى إليه إسرائيل في القرن الحالي.