نسعى جميعاً لتوفير أكبر قدر من الرعاية والأمان لأطفالنا، ولكن على ما يبدو أنه في سعينا لتحقيق هذا الهدف، أصبحنا نسبب ضرراً مباشراً وغير مباشر للصحة البدنية والنفسية لهؤلاء الأطفال، من خلال منعهم من اللعب خارج المنزل كوسيلة لحمايتهم من الأخطار والأضرار. هذه خلاصة خطاب نشر مؤخراً في صحيفة "الديلي تلجراف" البريطانية، وحمل توقيع ثلاثمائة شخص من أساتذة الجامعات، وأطباء علم النفس، والمعالجين النفسيين، وقيادات التعليم، واتحادات المدرِّسين، ولفيف من الكتاب والعلماء ورؤساء الجمعيات الخيرية. ويؤكد الخطاب على أن صحة أطفال الجيل الحالي، من الناحيتين البدنية والنفسية، أصبحت تعاني من تراجع الوقت الذي يقضونه في اللعب خارج المنزل. ويلقي الخطاب باللوم على ثلاثة عوامل رئيسية خلف هذا التغيّر التدريجي في السلوك الاجتماعي، وهي خوف وقلق الأبوين على سلامة أطفالهم، وإدمان ألعاب الكمبيوتر، وانتشار الفلسفة الأكاديمية المعتمدة على إسهال متواصل من الامتحانات الأسبوعية والفصلية والسنوية. وقبل أن نتطرق لتحليل التأثير الحقيقي والمفترض لهذه العوامل، يجب أن نتوقف أولاً عند معنى (اللعب) وأنواعه، وأن نستعرض الحالة الصحية والبدنية لأطفال مجتمعات القرن الحادي والعشرين. بداية، يعرف اللعب على أنه سلوك ترفيهي، يعتمد على ممارسه التفاعل البدني والذهني مع العالم الخارجي، ويؤدي لتحقيق الكثير من الفوائد على صعيد النمو البدني والتطور الذهني والاجتماعي. أما عن أنواع اللعب، فسنرتجل هنا -لغرض هذا المقال- ثلاثة أنواع من اللعب. اللعب البدني (physical play) مثل ممارسة أنواع الرياضة أو ركوب الدراجات أو الجري والمرح، والذي يطلق عليه البعض اللعب الحقيقي (true play)، واللعب الذهني (mental play) كألعاب الشطرنج والورق والألغاز، واللعب الإلكتروني (electronic play) مثل ألعاب الفيديو وألعاب الكمبيوتر ومشاهدة التلفزيون، والذي أصبح يطلق عليه لعب الشاشات (screen play). ومن الواضح أن اللعب الإلكتروني يحمل في طياته نوعاً من اللعب الذهني، وهو ما ينطبق أيضاً على كثير من الألعاب البدنية التي تتطلب تفكيراً وتنسيقاً ذهنياً، مثل كرة القدم أو كرة السلة. ويمكن تقسيم اللعب أيضاً إلى لعب انفرادي، يمارسه الشخص بمفرده، كألعاب الكمبيوتر وألعاب الفيديو، أو لعب اجتماعي يتطلب مشاركة لاعبين أو أكثر. وغني عن الذكر هنا، أن الجيل الحالي من الأطفال، مقارنة بالأجيال السابقة، يشهد تراجعاً مستمراً في حجم الوقت المخصص للعب البدني، بينما يزداد باطراد الوقت المخصص للعب الإلكتروني، سواء التفاعلي منه كألعاب الكمبيوتر والفيديو، أو السلبي المعتمد على قضاء ساعات طويلة دون حراك أمام شاشات التلفزيون. هذا التغير في السلوك الاجتماعي للأطفال، ترافق أيضاً مع تغيرات هائلة في صحتهم البدنية، وفي توازنهم النفسي. فعلى صعيد الصحة البدنية، يكتظ العالم حالياً بأكثر من اثنين وعشرين مليون طفل مصاب بالسمنة، وهو عدد يتزايد بشكل مطرد، خصوصاً في الدول الصناعية والدول الغنية. ففي بريطانيا مثلاً، تضاعفت نسبة الأطفال المصابين بالسمنة منذ عام 1982، لتصل إلى واحد من كل عشرة أطفال حالياً. وفي الولايات المتحدة تزايدت السمنة بين الأطفال بمقدار ثلاثة أضعاف ما بين عامي 1980 و2002، حيث يعاني حالياً أكثر من 17% من الأطفال والمراهقين الأميركيين من زيادة الوزن. ومثلها مثل الدول الأخرى الغنية، تعاني دول الخليج العربي من مشكلة السمنة بين الأطفال، حيث كشفت مؤخراً إحدى الدراسات، عن أن معدلات البدانة وزيادة الوزن في ارتفاع مستمر بين طلبة المدارس في دولة الإمارات. وأظهرت الدراسة أن 26% من العينة التي احتوت على 607 من الطلبة المواطنين في المراحل الدراسية الأولى، مصابون بالبدانة أو زيادة الوزن. وإذا ما انتقلنا للحديث عن الصحة النفسية لهؤلاء الأطفال، يكفي أن نذكر أنه في بداية هذا الصيف، أظهرت الإحصائيات الرسمية الصادرة عن الحكومة البريطانية أن عدد الوصفات الطبية من العقاقير المخصصة لعلاج اكتئاب الأطفال، قد زاد بمقدار أربعة أضعاف خلال العقد الماضي. ففي عام 2006 فقط، وصف الأطباء في إنجلترا أكثر من 630 ألف وصفة لعقاقير تستخدم لعلاج الاكتئاب لدى الأطفال. وبخلاف الاكتئاب، يلقي العلماء باللوم على تزايد الوقت الذي يقضيه الأطفال في الألعاب الانفرادية، في التسبب بزيادة ملحوظة في الأمراض النفسية، وفي السلوكيات الاجتماعية غير السويَّة، عندما يصلون إلى مرحلتي المراهقة والشباب. ففي الوقت الذي يعتبر فيه اللعب البدني، وخصوصاً في المساحات الشاسعة والمفتوحة، ضرورياً لحفاظ الأطفال على وزن مناسب لأعمارهم، وفي نمو هيكلهم الخارجي من عظام وعضلات، وأعضائهم الداخلية مثل القلب والرئتين، نجد أن اللعب الاجتماعي، الذي يشارك فيه عدة أطفال في وقت واحد، ضروري أيضاً للنمو النفسي لهؤلاء الأطفال، على صعيد قدرتهم على التعاون، والاندماج في المجموعة، والتواصل مع الآخرين، وغيرها من الملَكات الاجتماعية الضرورية للنجاح في الحياة العملية. أهمية هذه الفوائد التي يجنيها الأطفال من اللعب، وخصوصاً اللعب البدني في مساحات مفتوحة، تظهر من خلال تخصيص المجتمع الدولي للمصادر المالية والأكاديمية لدراسة اللعب لدى الأطفال، مثل "المعهد الوطني لدراسة اللعب" في الولايات المتحدة National Institute for Play . كما تؤكدها المادة 31 في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل the Rights of the Child والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989. وهو كله إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الوقت المخصص اللعب البدني الاجتماعي بين الأطفال ليس مجرد "لعب عيال". د. أكمل عبد الحكيم