مثل غيرها من دول العالم الثالث، واجهت جمهورية فنزويلا الأميركية الجنوبية تفاقم حيرة شبابها وضياعهم بين اللّهو السلبي الضّحل المسطّح وبين التسكّع في الشوارع والتعرٌّض للانغماس في عالم المخدٍّرات والعربدة والرّذيلة. ومثل غيرها ظنُّت أن تجييش الحماس الشبابي الفولكلوري للألعاب الشعبية الرياضية، وعلى رأسها بالطبع كرة القدم، ورعاية لعبة ولاءات الشباب للفرق الرياضية الوطنية والدولية، سيملأ حياة شبابها ويبعدهم عن المخاطر المجتمعية. لكن ذلك لم يحدث، إذ أن معضلة الشباب ليست قضية تسلية ولا قضية تجييش غوغائي للانتماءات الجمعية الرياضية، وإنما هي مسألة تعامل مع فقر متزايد في مشاعر الشباب الإنسانية ومع فوضى عارمة في أولويات فكرهم. من هنا بدأت خطوات الالتفات إلى الإمكانيات الهائلة التي تزخر بها مختلف النشاطات الثقافية لإخراج هؤلاء الشباب من عوالمهم الوجدانية والذهنية الفقيرة المتضادة إلى عوالم تحقق الذات وممارسة الإبداع ومن ثم الشعور بالكرامة الإنسانية والقيمة المعنوية. من بين التجارب المتميزة التي خطتها فنزويلا، تجربة إنشاء مراكز في مختلف المناطق، مجّانية وجديّة، لتعلٌم ممارسة الموسيقى بكل أنواعها الرفيعة من قبل الشباب الراغبين في ذلك. وكانت المفاجأة هي نجاح هذه المراكز في اجتذاب أعداد كبيرة من الشباب الذين انضموا إليها بملء إرادتهم وبحماس كبير. وباعتراف الذين استجوبوا، فقد اكتشفوا جمال ومذاق ذواتهم لأول مرة في حياتهم والتي انقلبت من رحلة وجودية مليئة بالملل والضياع والعبث إلى رحلة وجدانية ذهنية رفيعة وسعيدة ومبدعة. عندما سئل هؤلاء الشباب عن السبب في اكتساب هذه المشاعر الإيجابية، كان جواب بعضهم أنهم شعروا لأول مرة بأنهم يعيشون ويمارسون الحياة بدلاً من الاكتفاء بمشاهدتها عن بعد والتفرُج على نهرها المتدفق. هناك فرق هائل بين أن يلمس الشباب الأدوات الموسيقية بأيديهم ويحتضنونها بحنان لتنطق ألحاناً تعبٍر عن أحاسيسهم وأشواقهم، وبين أن يكونوا متلقًّين لألحان أفرزتها أرواح الآخرين. قيمة هذه التجربة هي في دلالتين: الأولى أن فنزويلا بلد بترولي يحاول بإصرار ملفت أن يستعمل ثروته في خطوات ريادية تجعل مجتمعه ومواطنيه أكثر التصاقا بمحاولات تحرير الإنسان من شتى أنواع العبوديات. من هذه المحاولات إخراج شبابه من نمطية الثقافة العولمية الاستهلاكية المكتفية بالتفرٌّج البليد والتصفيق و"النط" الهستيري في حلبات الغناء والرياضة. من هذا المنطلق تحتاج بلدان العرب النفطية، وعلى الأخص الخليجية، والتي ترفل في نعيم ثروة بترولية هائلة، أكبر بكثير مّما لدى فنزويلا، أن تتعلم من كل تجربة تحوّّل الثروة المادية إلى ثروة ثقافية تسمو بإنسانها. أما الدلالة الثانية، فهي أن نشر الثقافة الرفيعة بين المواطنين باهظة الكلفة. ولذلك عندما تتوفر ثروة كبيرة، كما هو الحال في الدول النفطية، فان اغتنام هذه الفرصة التي قد لا تتكرر، للصًّرف بسخاء على ترسيخ ممارسة الثقافة الرفيعة من قبل الشباب، يصبح أولوية قصوى. ولن يكفي الاهتمام بثقافة المشاهدة في شكل مهرجانات ثقافية وسينمائية وغنائية ومسرحية يقدمها الفنانون الممارسون واختصاصيو الثقافة. إذ المطلوب هو ثقافة الممارسة، وهذه تحتاج أن تكون في شكل مراكز ثقافية يمارس فيها الشباب بأنفسهم، وبالطبع بدعم فني ومالي من قبل الدولة والمجتمع، أنشطة مثل التمثيل والرسم والنحت والموسيقى والغناء والنقاشات والقراءات الأدبية والفكرية وغيرها. منذ حوالي قرن كتبت الروائية الأميركية "إديث وارتون"، وهي تشاهد بهلع التأثيرات السلبية للثروات الأميركية المتزايدة على حقول الثقافة الرفيعة، هذا التنبيه: "إن إغناء الحياة أهم بكثير من مجرًّد المحافظة عليها، وإن الثقافة هي أرفع بكثير من مجرًّد تنمية الكفاءة المالية". في دول الخليج البترولية على الأخص هناك إمكانية كارثية في أن تقود الثروة المالية الحالية الهائلة، مجتمعاتنا إلى ثقافة استهلاكية حسيّة شهوانية بليدة. وذلك على حساب ثقافة السمو والشاعرية والخيال. مقاومة هذه الإمكانية أصبحت في قلب الضّرورات القصوى . د. علي محمد فخرو