يشرح المُفكرُ العربي الدكتور محمد عابد الجابري أسبابَ تأخر العرب والمسلمين في الشرق؛ وتقدّم أوروبا المسيحية في الغرب. ويضع شروطاً للحاق بركب الحضارة الحديثة! ويرى أن آليات العملية النهضوية تحتّم عدمَ التنكر للتراث ولا الوقوف عنده كـ"طوطم"؛ بل الوقوف عليه من أجل الارتكاز في نقد الحاضر ونقد الماضي القريب؛ والقفز إلى المستقبل. ويأتي بمثال ظهورِ الإسلام في ظل القلق الاجتماعي والميتافيزيقي؛ ما شكّلَ صراعاً حول العقيدة الدينية؛ بين من كانوا يمثلون (التجديد)، ومن يمثلون (التقليد)! فالإسلام في دعوته (الجديدة) لم يتجه نحو المستقبل؛ بل ارتكز على الماضي (دين إبراهيم)، لتحقيق فكرة التجديد -أي تجاوز عبادة الأصنام إلى دين جديد! الفكرة أن الدعوة الإسلامية -والنهضة العربية الأولى– انطلقت من الانتظام في تراث؛ ولكن لا لتثبت عنده جامدة ساكنة؛ بل لترتكز عليه في عملية تجاوز كل الموروث القديم وتشييد تراث جديد. وعلى إثر تلك الآلية؛ وجدنا أوروبا تسير في نفس الآلية -العودة إلى الأصول- والانطلاق نحو الجديد. فكان قيام (النزعة الإنسانية) والثورة على الأخلاق المسيحية السائدة وكنيسة القرون الوسطى؛ ودعوة الرهبان إلى العودة إلى المسيحية الصافية الأولى. وهنا ظهر فكر جديد يعتمد على الفرد وتجربته وعقله... (انتهى). نحن في العالم العربي ما زلنا نتخذ من التراث "طوطماً" نحاكيه ونسامره ونتعلق به شوقاً لأنه يربطنا بالماضي، دون أن نتخذه سبيلاً إلى المستقبل. ولقد ظهرت دعوات عديدة -في مؤسسات الثقافة العربية- للعودة إلى التراث؛ وحبس صوره ضمن مناطق الحنين وإرضاء الذات أو إرضاء التوجهات الاجتماعية والإدارية لبعض صُناع القرار؛ دون أن يكون ذلك مدعاة للانطلاق نحو مستقبل أرحب يفك قيد العقل ويحرره من صور الماضي! وصارت المؤسسات الثقافية والإعلامية تطبع التراث طباعة "استنساخية" طبق الأصل؛ دونما محاولة لفهم أو مناقشة هذا التراث؛ أو تشريح أجزائه المختلفة؛ خصوصاً تلك المتعلقة بقضايا الفكر والاعتقاد. وظهر التراث (ثقافياً) في شكل النماذج المُصوّرة لحياة الماضي سواء ما تعلق بالحِرف اليدوية أو الأدب الشفاهي أو الرقصات أو الملابس أو حتى الأكلات الشعبية. ولقد خَفتَ صوتُ الداعين إلى مناقشة مسألة التراث على أسسٍ تجديدية -كما حصل إبّان الثورة الجديدة في أوروبا؛ أو دعوة النبوة التي قامت في عهد قريش وأخذت -حسب نص القرآن- من العودة لدين سيدنا إبراهيم منطلقاً لحياة وفكر جديدين يرفض عبادة الأصنام إلى الإيمان بالخالق. نحن لم ننهض حضارياً رغم تمسكنا بالشكل العام الملتزم للدين وتعاليمه؛ لأننا حافظنا على (الأصالة) ولم نتعرف جيداً على مضامين (المعاصرة)! وتلك معادلة خطيرة أدّت إلى حفظ الصور التراثية دونما محاولة استخدامها مَعبراً نحو (المعاصرة)؟! نحن لم ننهض حضارياً لأن العديد من علماء الدين أو السلطات الدينية حاربت -لقرون طويلة- الاجتهاد أو نقد الفكر السائد. وظللنا ندور في دائرة الماضي ونستحضر الأسماء والمواقف والعِظات؛ دون أن تكون لنا العين الأخرى على المستقبل. وصادف أن ساهمت الأنظمة العربية في هذا التقهقر الذي ابتعد كلية عن المضمون الانفتاحي "الثوري" للدين. نحن لم ننهض حضارياً لأن مناخ البحث العلمي لم يكن متاحاً في أغلب دول العالم الإسلامي والعربي. كان هنالك تشديدٌ وتشدّدٌ واضحان على الالتزام بالتعاليم الدينية "النصيَّة"؛ ورفض الانزياحات التفسيرية لها؛ وإن كانت في الصالح العام. وصارت العلاقة بيننا وبين الدين مجرد طقوس "فيزيائية" وإن اقترنت بالإيمان والخشوع!؟ نحن لم ننهض حضارياً لأننا وجدنا أنفسنا أمام عقلية تحاربُ الجديد تحت باب المحافظة على القديم؛ والخوف على التشوه الذي قد يلحقهُ -هذا الجديد- بذاك القديم. لذا لم تحفل الدولة الحديثة بالاهتمام بالبحث العلمي؛ وحاربت كل أشكال التجديد التي أظهرتها أوروبا. ولعلنا نتذكر أن البعض كان يعتبر الراديو والتلفزيون (رجساً من عمل الشيطان)؛ وذلك ليس ببعيد؛ بل في أوائل السبعينات! كذلك لم تحفل مناهجنا التربوية بالنماذج الجديدة في مجالات الإبداع مثل: الشعر؛ الفلسفة، الفنون، المسرح وغيرها. وصار أن أصبح الدين عائقاً واضحاً -في مجتمعات عربية وإسلامية- أمام استنباط الأشكال الجديدة من تلك النماذج القديمة. وفي ذلك انحراف عن الآلية التي ذكرها الجابري؛ سواء عن أوروبا أم عن مجتمع مكة؛ والتي تعتمد على الرجوع إلى الماضي من أجل القفز إلى المستقبل! بمعنى آخر، لم تقم "ثورة" فكرية تدعو إلى مناقشة الجوانب القافزة إلى المعاصرة -في الدين الإسلامي. وظلت النصوص الصفراء -كما هي- منذ 15 قرناً. ولا نقصد هنا التنكر للدين أو الخروج على تعاليمه الشرعية أبداً -حتى لا يفهمنا المفسرون خطأ- بل المقصود قراءة القرآن والسُّنة الشريفة قراءة تُخرجنا من الارتهان إلى مقولات رفض الدنيا، والتهيؤ للموت، والعمل للآخرة؛ دونما العمل في الدنيا وإعمار الكون. تُخرجنا إلى فضاءات الإنجاز والإبداع والتحاور وإجراء عملية غسيل للمخ الإسلامي بصورة جذرية؛ لكنها لا تخرج عن الأصول المتعارف عليها؛ وهي القرآن والسُّنة! نحن قد لا نعيش قلقاً ميتافيزيقياً بثبوت الدين وتمكّنه من العقول والقلوب؛ لكننا نعيشُ قلقاً اجتماعياً؛ من حيث عدم قدرتنا على المواءمة بين الماضي والحاضر. أي التراث والمعاصرة , وذلك نابع من عدم قدرتنا على مناقشة دلالات الدين أو حوادث التاريخ الإسلامي من منظور حيادي أو غير عاطفي.كما أدى غياب الديمقراطية وحرية الرأي عن المجتمع الإسلامي إلى زيادة جرعة "الكهنوت" الرسمي للمجتمعات؛ بكل ما في تلك المجتمعات من فساد وتحقير للعقل وإذكاءٍ لروح إذلال "الأطراف" وتكريم "المركز" في الدولة الحديثة!؟ ما هو التراث الجديد الذي نُخلّقهُ اليوم للأجيال القادمة؟ لقد وصلنا التراثُ القديم -أو صورة التراث المطابقة للقديم- ولم نحاول الاستفادة منه كما حصل في نهضة أوروبا أو نهضة الإسلام الأولى وتغلبه على الفكر السائد بالدعوة لدين جديد لا يُنكر الدين القديم. وهذا يفرض علينا إعادة النظر في مسألة التراث بشكل من أشكالها. إن إدارات أو وزارات الثقافة والتراث "تحبس" التراث في المتاحف؛ بل تقوم بتجميده ليكون منفصلاً عن المجتمع -خصوصاً اختصار الموروث في الأشكال فقط؛ (التراث المُتجسِّم)! فكم من شباب -هذه الأيام- يعرفون الألعاب الشعبية التي مارسها الآباء والأجداد؟ وكم من شباب اليوم يعرفون مجتمعَ الغوص وقوانينه ونواميسه؟ وكم من شباب اليوم يعرفون اتجاهات (الصوفية) أو (الزيدية) أو (الأشعرية)؟ وكم من شباب اليوم يدرك قيمة الأعشاب الشعبية وطرق التداوي بها؟ بل كم طبيباً عربياً قدّم دواءً جديداً استنبطه من مواد العلاجات التراثية؟ نحن نطرب مع الأصوات الشعبية في الخليج كما نطرب مع أم كلثوم أو محمد عبدالوهاب؛ لكن شبابنا لا يُعيرون ذلك النوع من الفن اهتماماً (التراث)؛ قدر اهتمامهم بـ"روبي" وغيرها (المعاصرة)؟! لم تقم سياسة ثقافية في العالم الإسلامي بقصد التجديد؛ بل إن هنالك وزارات وهيئات ثقافة ليست لها سياسات واضحة!-كما أن هنالك خلطاً بين الأصالة والمعاصرة في المفهوم الإسلامي والعربي. فالأصالة -في نظرهم- أن نأتي بخيمة شعَر ونوقف بعيراً بجانبها؛ أو أن نأتي بعدّة البحّار ولوازم الغوص! أو عمل الدمى التي تشكل العروس والمعرس في الخلّة! أما المعاصرة -في نظرهم- أن نجلب المغني الأوبرالي الفلاني؛ أو المسرحية الأميركية الفلانية ونقول لدينا مهرجان ثقافي، يعني الأصالة والمعاصرة! وهكذا يتم تغييب الفكر -وهو الأهم في الانطلاق نحو المستقبل- ويريدونه أن يكون نائماً مستريحاً في ظل دولة الرفاه أو سلطة الدين! نحن بحاجة إلى مشروع ثقافي نهضوي. وهذا المشروع لن يتم ضمن سياسة "رهن" العقل لمستلزمات الأصالة دون نقاش؛ ولن يتم إلا بالانطلاق نحو المستقبل وتحرير الفكر من عقاله الثيوقراطي والاجتماعي.