لقد بدأنا في العالم العربي ومن أبوظبي نفكر بالاستثمار في الثقافة والفن، وهذا ما كانت تطالب به فئة من المثقفين. وبعد أن تحققت أمنيتهم أعتقد أن من المهم أن يدعم كل مثقف وفنان التوجهات الثقافية في أبوظبي، والتي لاشك أنها تنسحب على الوطن العربي، وأكبر دليل هو برنامج "أمير الشعراء". وما يميز تجربة أبوظبي الثقافية الجديدة اليوم هو أن هناك "إخراجاً" جديداً للثقافة العربية ومكوناتها، وهناك "مخرجاً" غير تقليدي يقوم بعرض الثقافة والفن بطريقة تتلاءم والقرن الحادي والعشرين، وبأسلوب يناسب الجيل الجديد ليتقبله بسهولة ويتفاعل معه بقوة. ومن الطبيعي أن يواجه هذا الأسلوب مقاومة من بعض المثقفين التقليديين الذين يرون في هذا التجديد اعتداءً على الثقافة ومكوناتها. كما أن أبوظبي بما تقوم به اليوم تجدِّد الثقافة العربية، وتفتح أمام المثقف آفاقاً جديدة في مجالات الثقافة والفنون المختلفة، والمهم فيما يحدث في أبوظبي أن الأنشطة الثقافية لم تعد موجّهة للنخبة، ويبدو واضحاً أن أبوظبي حملت على عاتقها مسؤولية أن تكون الثقافة للجميع، والفن للجميع، ولا يكون أي من مكونات الثقافة حكراً على فئة من الناس دون الآخرين. من يدقق فيما يتم في أبوظبي منذ أشهر يدرك أن شيئاً كبيراً حدث ويحدث في أبوظبي على الصعيد الثقافي والفني، فمسابقات وبرامج الشعر والمعارض الفنية التي تقام الواحدة تلو الأخرى، والمهرجانات التي شهدتها وستشهدها أبوظبي، كل ذلك يجعلنا نشعر بأن ما يحدث اليوم ليس بالأمر البسيط، وأن تأثيراته الإيجابية ستكون واضحة وجلية على المدى البعيد -ليس البعيد جداً- وهذا ما نفترض أنه يسعد أهل الثقافة والفن. ومسابقة "أمير الشعراء" مثال على ذلك، فعلى الرغم من بعض سلبيات هذا البرنامج، وما فيه من ملاحظات واضحة لا يختلف عليها اثنان سواء في مقدم البرنامج أو الإخراج أو مستوى الجمهور في المسرح وغيرها من الملاحظات التي أقر بها المنظِّمون قبل أن يكتشفها "الآخرون"، إلا أننا يجب أن نؤكد على أن هذه المسابقة ألقت حجراً في مياه الشعر العربي الفصيح الراكدة منذ سنوات طويلة. ونجحت هذه المسابقة في أن تذكِّر الإنسان العربي بأن هناك كنزاً عربياً من الشعر صار مهجوراً لا يلتفت إليه أحد، ولا يستخدمه إلا نخبة النخبة من الشعراء، ولا يستمع إليه إلا مجموعة من البشر هنا وهناك. اليوم بفضل مسابقة "أمير الشعراء" والقائمين على هذه المسابقة سُلطت الأضواء من جديد على الشعر الفصيح، وما انتهى البرنامج حتى بدأت الدعوات تنهال على الشعراء المشاركين في المسابقة كي يُحيوا أمسيات شعرية في الإمارات وكلٌّ في وطنه، وهذا في حد ذاته إنجاز بعد أن كنا نرى أن الأمسيات الشعرية لا يحضرها إلا جمهور يمكن عدُّه على أصابع اليد الواحدة أو اليدين على أكثر تقدير. ولا يخفى على أحد ما حدث بعد برنامج "شاعر المليون" الذي زلزل الساحة الشعرية النبطية منذ أشهر، وبمجرد انتهائه قلدت العديد من القنوات الفضائية الفكرة ولكن بطرق مختلفة، فصرنا نرى أكثر من برنامج شعري يهتم بالشعر النبطي، وبغض النظر عن مستوى تلك البرامج إلا أنها تؤكد أن هناك جمهوراً عريضاً للشعر النبطي، ويجب أن تكون له مساحة على خريطة البرامج الفضائية. إعلامياً أكد برنامج "أمير الشعراء" أن الأفكار المميزة ليست فقط تلك التي تستورد من الخارج، وإنما يمكننا أن ننتج برامج عربية، ويمكن أن تحظى هذه البرامج بنسبة مشاهدة عالية جداً وجمهور غفير. أما مَن كانوا خائفين على لقب "أمير الشعراء" الذي اعتبروه مُقدساً فإنه بقي للشاعر العربي الكبير أحمد شوقي ولن ينتزعه منه أحد. أما "أمير الشعراء" الجديد الإماراتي كريم معتوق الذي فاز بلقب هذا البرنامج فبلاشك أنه شاعر كبير، وأن زملاءه الأربعة الذين تنافسوا معه كلهم شعراء من الوزن الثقيل وسيكون لهم شأن في مستقبل الشعر العربي. نتمنى أن نخلق مثل هذه الأفكار الإعلامية المتميزة التي تشجع الأجيال العربية على الاهتمام بأشياء مفيدة، وخصوصاً أننا لاحظنا خلال السنوات القليلة الماضية اندفاع شبابنا بشكل قوي نحو الغناء، وهذا كان متوقعاً بسبب موجة برامج الغناء والرقص التي انتشرت وبالتالي جعلت حلم أي شاب وأي فتاة أن يكون مغنياً مشهوراً ونجماً يتطلع إليه الجميع، أما اليوم ومع وجود برامج كـ"شاعر المليون" و"أمير الشعراء" فقد يظهر من يهتم بإمكانياته الشعرية ويطورها، لأنه سيجد المكان الذي يعرض فيه إبداعاته. أبوظبي التي اهتمت بالشعر تستعد من الآن للمعرض الثامن عشر للكتاب في مارس المقبل 2008، الذي تنظمه هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. فبعد النجاح الذي لاقاه معرض الكتاب 2007 فإن الاستعداد لمعرض قادم أكثر تميزاً وقوة بدأ، ومن المتوقع أن يكون هذا المعرض علامة فارقة بين جميع معارض الكتب العربية. وقبل أن ينطلق معرض الكتاب في مارس ستكون أبوظبي قد انتهت من مهرجانها السينمائي الأول الذي أطلق عليه "مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي" الذي يأتي تلبية لاحتياجات السوق العالمية. وستشارك فيه قائمة متنوعة من الأفلام الإقليمية والدولية يتجاوز عددها الخمسين فيلماً. وسيتم التركيز في بعض أقسامه على الفنانين الناشئين والمواهب السينمائية الشابة. كما سيتميز عن غيره في أنه يقدم "جائزة هيئة المحلّفين الكبرى" وهي تختص بتمويل المشروع الفائز في المسابقة، وستُمنح في فئات الأفلام الروائية، الأفلام الوثائقية، والأفلام القصيرة. الجزء الأهم في هذا المهرجان، والذي يترقبه المشتغلون في صناعة السينما سواء المحترفون منهم أو المبتدئون هو مسألة التمويل، فمهرجان أبوظبي السينمائي بخلاف غيره من المهرجانات أكد التزامه بتوفير الفرص للذين يبحثون عن أوجه الاستثمار في الفيلم، وسيقوم المهرجان بتدشين دائرة تمويل الأفلام السينمائية التي ستصبح مؤتمراً سنوياً حول التعاون الدولي في مجال تمويل صناعة الفيلم، وسيجتمع نخبة من ممولي الأفلام في العالم لمناقشة أساليب التمويل العالمية، وكيفية مشاركة العالم العربي في هذا السياق بطريقة صحيحة. وما يجعل النظرة متفائلة لهذا المهرجان هو أن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث أعلنت في وقت تزامن مع إعلانها عن المهرجان، وبعد تشكيل لجنة أبوظبي لصناعة الفيلم، عن تأسيس أكاديمية عالمية للسينما في أبوظبي بالتعاون مع أكاديمية نيويورك للفيلم، وهذا يعني أن الحركة السينمائية ستكون منهجية وعلمية، بالإضافة إلى أنها ستمتزج مع عنصر الخبرة من خلال منح صانعي الأفلام الإقليميين والعالميين فرصة عرض نتاجاتهم، وتأمين التسهيلات اللازمة للمستثمرين العالميين. من المتوقع أن يخلق هذا المهرجان تأثيراً ثقافياً مهماً وتكون له بصمة سينمائية راسخة في عامه الأول، وبلاشك سيضيف هذا المهرجان زخَماً جديداً للدعم المستمر الذي يحظى به مجتمع الفن والمشهد السينمائي في عاصمة الإمارات. هذه نظرة سريعة لجزء من المشهد الثقافي والفني في أبوظبي، لكنها بلاشك تؤكد أن ما يحدث في أبوظبي شيء كبير يستحق الاهتمام. والأجمل أن يكون الإنسان شريكاً في هذا "الشيء الكبير".