رغم أن الإرهاب ظاهرة ليست حديثة حيث تحظى بسجل في مختلف العصور وبتنوُّعٍ في أساليبها خصوصاً في العصر الحديث بسبب زخم الاتصالات والمعلومات وتوافر المواد، فإنه يمكن رصد تطور الإرهاب الدولي من التقليدي إلى الكيماوي والمعلوماتي عبر ثلاثة أجيال. الأول ذو طابع قومي متطرف اجتاح أوروبا من أواخر القرن التاسع عشر إلى ثلاثينيات القرن العشرين، أما الثاني فذو طابع أيديولوجي شهدته الحرب الباردة وكان في جوهره أداة من أدوات إدارة الصراع بين الشرق والغرب. وأخيراً الجيل الثالث الحالي، وهو إرهاب يتسم بخصائص متميزة ومختلفة عما سبقه من حيث الانتماء والتنظيم والتسليح والأهداف بما تُتِيحهُ الطفرة المعلوماتية والاتصالية كما يمتاز بصعوبة المتابعة والتعقب والاستهداف. لقد ظهرت الحرب على الإرهاب غداة هجمات الثلاثاء 11 سبتمبر 2001 وتمثل ذلك في ضغط أميركي دبلوماسي على دول العالم باستخدام سياسة ترتكز على "من ليس معنا فهو ضدنا"، ومن هنا قامت هذه الدبلوماسية الأميركية بخلق تحالف وتعاون دولي. وشكلت هذه الهجمات نقلة نوعية بالغة الأهمية على مختلف المستويات. فعلى المستوى المحلي الأميركي أصبحت قضايا الأمن أولوية الناخب الأميركي وغدت شرعيةُ القيادة بيد الصقور من "الجمهوريين". أما إقليمياً فقد كان الشرق الأوسط مركزاً لما حملته هذه الحرب الهوجاء من عنف عصف بأركانه، ففيه تتم ملاحقة "القاعدة" ومنه تجري محاولة خلق نموذج ديمقراطي في العراق قابل للتطبيق في غيره. أما دولياً فقد أدى ذاك الثلاثاء إلى إعادة تشكيل السياسات الخارجية لمعظم الدول بما فيها الكبرى، فتمَّت إعادة تعريف دور أدوات هذه السياسات من تحالف وتعاون ومتابعة استخباراتية وتفعيل الأداة العسكرية. وهكذا سيطرت "الحرب على الإرهاب" على سياسات واشنطن الخارجية بشكل خاص ومن سار في ركبها من الدول بصفة عامة، وأصبحت مناط التفاعلات الدولية رغم أن هذا "الإرهاب" ليس قوة دولية محددة المعالم، وقد لا يملك أيديولوجية واضحة المعالم سوى معاداة من لا يوافقه الرأي. وتتميز الرؤية الدولية بتغليب كل دولة لمصلحتها الخاصة، فقد جعلت أميركا من الإرهاب مصطلحاً مطاطاً تستخدمه ذريعة لتحقيق مآربها، لاسيما السيطرة على منابع النفط. ومن نفس المنطلق كانت رؤية الدول الكبرى، فقد أرادت روسيا أن تستخدمه في قضية الشيشان أو أي جماعة انفصالية تهدد اتحاد روسيا، وكذلك الصين، في الوقت الذي غابت فيه عن أروقة الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية والمنظمات الإقليمية أية رؤية واضحة حول ماهية الإرهاب. أما عالميا فكان لذاك اليوم أثره اللامتناهي، حيث دفع الإدارة الأميركية إلى حسم الجدل الذي كان قائما قبل 11 سبتمبر والمتمثل في تباين الرؤية المستقبلية عند بعض المفكرين في أواخر القرن الماضي بين سياسة الانعزال وسياسة مضاعفة التحرك الخارجي لمنع بروز قوى اقتصادية وعسكرية وسياسية منافسة لها. فاتَّبع الرأيُ الأول "سياسة الانعزال" على أساس تاريخي كتوجُّه اتخذته أميركا في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ويستند هذا الرأي إلى تقليص النفقات العسكرية بما يحسِّن القدرة التنافسية الاقتصادية مع إبقاء المنافسين يزيدون نفقاتهم العسكرية على حساب التنمية الحقيقية، وامتلاك قدرات أخرى تَفِي بالاتصال والتواصل مع العالم وحتى تحقيق الريادة. ولكن هذا الموقف سيؤدي إلى فجوة كبيرة، فأميركا اليوم لاعب كبير في السياسة الدولية، والقول بالتوجُّه الانعزالي اليوم سيترتب عليه قيام دول أخرى بملء الفراغ، ومن ثم اتساع دائرة الدول النووية بوجه خاص. أما الرأي الثاني فيدافع عن الحاجة إلى إبقاء أميركا تتربع على زعامة العالم في النظام الدولي الأحادي، وذلك من خلال تفعيل التحركات والتدخلات السياسية والاقتصادية في مختلف أصقاع العالم. ووفق هذا الرأي كانت "الحرب على الإرهاب" هي الكفيلة بالحيلولة دون قيام دول بإمكانها تعديل كفة الميزان الدولي الحالي، أي منع بروز الصين وروسيا بالتحديد كندَّين لواشنطن، وهما المنافسان الأقرب واللذان لم يحققا بعدُ أي توازن معها. وبمعنى أدق فإن هذه الحرب تكفل لواشنطن الهيمنة في ظل نظام أحادي القطبية نحو المزيد من التحرك والفعالية على كل المستويات، كما توفِّر أجواء "الحرب على الإرهاب ومحور الشر" هذه حافزاً أو هرموناً يزيد إفرازات الغدد الأميركية الصناعية والاقتصادية والعسكرية والفكرية، وهذه ضرورةٌ للدول الكبرى. وهكذا، بعد ست سنوات يتضح أن هذه الحرب أثارت زوبعة قد تطول وتؤثر في هياكل النظام الدولي ومؤسساته، وما موقعُ الأمم المتحدة الضعيف من كل هذا سوى دليل على أن دورها تقلصَ لعدم وجود توازن دولي يعكس القوة القانونية للدول. ومن جهة أخرى فإن سياسية أميركا التدخلية القائمة على العنجهية، لا سيما فشلها في النموذج الذي كان يراد تطبيقه في الشرق الأوسط وعدم ضبط الاستقرار فيه، أدى إلى حَفز روسيا والصين على السعي إلى إيجاد توازن في خضم هذا الاهتزاز لصورة العم سام في العالم، وهو الأمر الذي تعزز بارتفاع أسعار الطاقة والتقدم الاقتصادي والتجاري الروسي والصيني وعودة روسيا إلى ممارسة سياسة القوة العظمى. كل هذا إلى جانب التقارب الكبير بين روسيا والصين في الفترة الحالية الذي شرَّع الباب للهند التي تحاول واشنطن فتح الكثير من سبل التعاون والدعم أمامها، وهو ما اتضح من خلال توفير الوقود النووي لها، إلا أن الهند ربما ترى أن وضعها الدولي ومكانتها الاقتصادية والتجارية يحققان منافع كبيرة من خلال تشكيلها لضلع في مثلث استراتيجي "نيودلهي وموسكو وبكين" لتحقيق توازن مع أميركا، وكان من الواضح أن الهند ترغب في تعزيز قوتها وحضورها في آسيا ثم في العالم، وفي هذا الشأن يحمل فتْح الحدود مع باكستان بعد ستين عاماً دلالات كبيرة. وإذا كانت السمة الأولى للحرب الباردة الصراع الأيديولوجي من أجل النفوذ، فإن المثلث، إذا ما تحقق، يستطيع إعادة توزيع المكاسب المختلفة، غير أنه لا يقدم إطاراً إيديولوجيا كابحا للرأسمالية والليبرالية. ومن هنا فالشرق الأوسط وقضاياه واستقراره والطموح الإيراني في الحصول على تكنولوجيا الطاقة النووية لا يعدو أن يكون بيادق على رُقَعِ تحركات الدول الكبرى واستراتيجياتها. هذه هي حال العالم بين ثلاثاء 2001 وثلاثاء 2007، ولعل أشكال العنف المستشري في العالم تكوِّنُ في مجملها أدخنة ذاك الثلاثاء... والواقع في كل هذا، يبدو أن بلاد الهنود الحمر ضاقت بما رحبت على شذاذ الآفاق في "الشركة المتحدة الأميركية" فأرادوا أن يضربوا في الأرض كما فعلوا ذات عام من القرن الخامس عشر.