حمل إليَّ صديق عزيز يعرف ولعي بهذه الطريقة من طرق التحليل السياسي مجموعة من رسوم الكاريكاتير التي أبدعها رسامون أميركيون عن ورطة بلادهم في العراق. يحارُ المرء أحياناً في فهم ظاهرة سياسية مُعقدة أو تحليلها وإعادة تركيب عناصرها، ثم يقع بصره على رسم كاريكاتيري لفنان مبدع فإذا به يسلمه مفاتيح الفهم والاستيعاب لكل ما يجري. يجد آخرون ضالتهم في تحليل الروايات الأدبية عن حدث معين أو مجتمع ما ويصلون إلى نتائج بالغة الدلالة، ويجيد فريق ثالث قراءة المواقف السياسية من خلال الصور التي تلتقط عن حدث ما، وهكذا. ولقد قدمت لي مجموعة الرسوم الكاريكاتيرية الأميركية التي حملها لي صديقي العزيز رؤية ثاقبة للمسألة، صحيح أنها قد لا تضيف للقارئ العربي المهتم جديداً لما يعلمه عما حلَّ بالعراق على أيدي قوات الاحتلال الأميركي، ولكنها بالغة الدلالة على رأي النخبة الأميركية، ومن المؤكد أيضاً أنها شديدة التأثير -أو على الأقل ذات تأثير- على الرأي العام الأميركي. تشير مجموعة من الرسوم إلى ما فعله الاحتلال الأميركي بالعراق على صعيد تفتيته داخلياً وبالذات إذكاء الفتنة الطائفية فيه. يظهر الرسم الأول علم العراق ذا النجوم الثلاثة التي تحتضن فيما بينها عبارة "الله أكبر" وقد كتب على كل نجمة منها اسم طائفة أو جماعة قومية رئيسية في العراق: السُنَّة والأكراد والشيعة. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد الذي تنقسم فيه نجوم العراق على هذا النحو الطائفي العرقي وإنما يظهر الرسم أن النجمة السُنِّية قد سقطت من العلم مخلفة وراءها ظلاً باهتاً في إشارة إلى السياسات الأولى للاحتلال الأميركي التي سعت إلى إعادة بناء ميزان القوى الداخلي في العراق لصالح الشيعة على حساب السُّنة مرتكبة بذلك خطأً فادحاً في حق العراق. وفي رسم آخر يظهر علَم العراق مرفرفاً لكن ساريته قد تحطمت إلى أجزاء ثلاثة شيعية وسُنية وكردية، وثمة محاولة لا تبدو ناجحة لإعادة ربطها كي تشكل سارية واحدة. تلخص مجموعة أخرى من الرسوم ببراعة "التغيير الداخلي" الذي أحدثه الاحتلال الأميركي في العراق، فقد كان أحد مزاعم القيادة الأميركية أنها سوف تحتل العراق لتخليصه من الديكتاتورية لكن الواقع أثبت أنها استبدلت ديكتاتورية بأخرى. يبدو أحد الرسوم المزدوجة شديد الدلالة في هذا الصدد فهو يتضمن على جانب تحت عنوان "العراق القديم" مواطناً عراقياً معلقاً من يديه على جدار وجلاده يقف أمامه حاملاً سلاحه، أما على الجانب الآخر وعنوانه "العراق الجديد" فإننا نجد الأدوار قد تبدلت، فالجلاد أصبح معلقاً من يديه على الجدار نفسه وتحول المواطن العراقي السجين المعذب في الرسم الأول إلى جلاد يمسك بالسلاح ذاته. وفي رسم ثانٍ يُمَثَّل العراق بطائر صغير كان محبوساً في قفص كُتبت عليه كلمة الديمقراطية، وأبواب القفص مفتوحة، لكن القفص نفسه موضوع داخل قفص أكبر موصد الأبواب يشير إلى "الثيوقراطية". يصور رسم ثالث عملية إعادة بناء العراق، وفيه مجموعة من العمال النشطين في بناء كوخ يمثل العراق الجديد لكن منشاراً يمسك به أحدهم داخل الكوخ يحاول أن يقسمه إلى نصفين ويكاد يكون قد أتم نصف مهمته. وهكذا يبدو العراق -في الرسم الكاريكاتيري الأخير الخاص بالتداعيات الداخلية للاحتلال الأميركي- آنية فخارية أثرية من الواضح أنها كانت شديدة الجمال عالية القيمة، غير أنه من الواضح أيضاً أنها تحطمت إلى أجزاء كثيرة يبدو بعضها شظايا، وأن ثمة من حاول أن يعيد لصق هذه الأشياء لكن محاولاته كما يظهرها الرسم لم تتم من ناحية، وما أنجز منها لا يتسم بالدقة أو البراعة من ناحية أخرى. ربما يفتح رسم آخر الطريق للإشارة إلى التداعيات الإقليمية للاحتلال الأميركي للعراق، وإن كان من الممكن أن يُفسَر على أي مستوى من مستويات تحليل العلاقات الدولية داخلياً أو إقليمياً أو عالمياً. يظهر الرسم صياداً نجح في اصطياد سمكة مكتوب عليها "صدام" لكن خمسة أسماك أخرى تعضه عضاً شديداً في أنحاء متفرقة من جسده. قد تشير هذه الأسماك على الصعيد الوطني إلى قوى المقاومة التي تشكلت كرد فعل فوري، وقد تكون قوى إقليمية وفر لها الاحتلال فرصة ذهبية كي تنهش اللحم الأميركي كما في الحالة الإيرانية، وقد تكون قوى عالمية كحالة تنظيم "القاعدة" الذي امتد بنشاطه إلى العراق بعد الاحتلال ليصفي حساباته مع الولايات المتحدة. وإذا كانت القوى التي أطلقها الاحتلال من عقالها غير محددة في الرسم السابق فإن ثمة رسماً آخر يشير إلى أحدها بكل وضوح. يتكون الرسم من أربع خانات كتلك التي تظهر في بيانات رحلات الطيران وقد كتب في كل خانة حرف من حروف اسم العراق باللغة الإنجليزية IRAQ لكن الخانة الأخيرة في أقصى اليمين تشير إلى أن الحرف الأخير من الاسم في طريقه إلى التغيير وأن ثمة حرفاً جديداً يوشك أن يحل محله وهو حرف الـN لكي يصبح الاسم الموجود في اللوحة هو إيران وليس العراق. وتلك إشارة لا تخطئها العين للخسارة الإستراتيجية الكبرى التي لقيها الاحتلال الأميركي في العراق والمتمثلة في نمو نفوذ إيران داخل العراق إلى الحد الذي يظهر الرسم أنه يكاد يكون محواً لكيان العراق لحساب إيران، والواقع أن المرء ليعجب من الكيفية التي تمت بها الحسابات الأميركية بشأن تداعيات احتلال العراق على موازين القوى الإقليمية، وكيف غفل صانعو القرار الأميركي في هذا الصدد عن الآثار الإيجابية المحتملة لاحتلالهم العراق على تنامي النفوذ الإقليمي الإيراني. في ظل هذه الكوارث التي تظهرها الرسوم السابقة يظهر الرسم قبل الأخير أنه لم يعد ثمة مفر أمام السياسة الأميركية سوى أن تخرج من العراق، فهناك أربعة أبواب في هذا الرسم يحمل كل منها حرفاً من حروف اسم العراق باللغة الإنجليزية، ومكتوب على الأبواب كلها -التي يبدو "العم سام" مرتبكاً وهو يفتحها واحداً بعد الآخر- كلمة واحدة هي كلمة "خروج"، ومع ذلك يبدو الرئيس الأميركي الذي يتنقل في خفة ورشاقة باديتين من مكان لآخر، ويزور العراق خفية، ويتحدث عن إنجازات يمكن البناء عليها وكأنه يعيش في عالم خيالي من صنعه هو أو من صنع أحد مستشاريه أو عدد محدود منهم، إذ ليس من المعقول أنه لا يفهم بعد كل العثرات التي صادفته في العراق والتكلفة المادية والبشرية الهائلة التي تحمل بها وطنه من جراء سياساته الفاشلة هناك، والتحولات التي طرأت في الساحة الأميركية- لم يفهم أنه قد وصل إلى منتهى الفشل وأنه لم يعد أمامه من بديل سوى الرحيل. لكن الطريف -أو الخطير- وهذا ما يظهره الرسم الأخير أن الرغبة في الرحيل ليست رغبة أبناء العراق وحدهم، أو من يؤيدونهم من العرب في نضالهم التحرري، أو من يشاركونهم المطلب نفسه في الساحة الأميركية، ولكنها رغبة أيضاً لقواته العاملة في العراق، ففي هذا الرسم الأخير يبدو شعار "لتخرج الولايات المتحدة من العراق" مكتوباً باللغة الإنجليزية وثمة جنديان أميركيان يقفان يقول أحدهما للآخر الذي يبدو في حالة من الخجل "ألا يشبه هذا الخط خطك؟". يبقى شيء أخير مؤلم. في مثل هذه الأنواع من التحليلات السياسية نحاول أن نتحدث عن المسكوت عنه، وهنا أعتقد أنه من السهولة بمكان أن يكتشف المرء أن الغائب عن هذه الرسوم هم العرب، فهناك حضور لقوى عراقية وإيرانية وربما قوى أخرى، لكن العرب لا وجود لهم. ألا يشكل هذا في حد ذاته حجة قوية لصالح هذا الأسلوب من أساليب التحليل السياسي؟