يتسبب مرض الاكتئاب في قدر من الإعاقة الصحية، أكبر مما يسببه السكري، أو التهاب المفاصل، أو الأزمة الشعبية، أو حتى الذبحة الصدرية. وإذا ما ترافق الاكتئاب بمرض مزمن، مثل الأمراض سابقة الذكر، يتضاعف حينها المقدار الكلي للإعاقة في حياة المريض. وهو ما يدفعنا بالضرورة للنظر إلى الاكتئاب، وغيره من الأمراض النفسية والعقلية، كمشكلةِ صحةٍ عامة أو صحة مجتمع، تتطلب تضافر الجهود الحكومية والطبية، مع توفير المصادر المالية والفنية اللازمة، إذا ما أردنا خفض عبء المرضى، ومستويات الإعاقة التي تسببها هذه الأمراض في المجتمع. هذه الحقائق هي خلاصة دراسة أجراها باحثون في منظمة الصحة العالمية، ونشرت نتائجها هذا الأسبوع في واحدة من أشهر الدوريات الطبية في العالم (The Lancet). فمن خلال بحث ميداني في ستين دولة شمل 245 ألف شخص، وبعد الأخذ في الاعتبار بالفروق الصحية والعوامل الاقتصادية بين الدول المختلفة، توصل الباحثون إلى أن مرض الاكتئاب يحمل في طياته أكبر تأثير سلبي على الصحة العامة. حيث تضمن البحث أسئلة عامة، تساعد على التعرف على الصحة النفسية للأشخاص، وإذا ما كانوا مصابين بالاكتئاب أم لا. مثل طبيعة النوم وفتراته، وإذا ما كانوا يعانون من أية آلام، أو إذا ما كانوا يواجهون مشاكل ومتاعب تتعلق بالذاكرة والقدرة على التركيز، وخصوصاً قدرتهم النفسية والبدنية على القيام بالوظائف والمهام اليومية الاعتيادية. ومن خلال هذه الأسئلة، توصل الباحثون إلى أن مرضى الاكتئاب، وخصوصاً إذا ما كانوا مصابين بمرض آخر مزمن، هم الأكثر معاناة والأكبر إعاقة بين جميع المرضى. وقبل أن نحاول تقييم الحجم الحقيقي لهذه المشكلة الصحية، يجب أن نتوقف أولاً عند بعض الحقائق المؤسفة عن الحالة النفسية والعقلية لأفراد المجتمع البشري. أولى هذه الحقائق تشير إلى أن نصف حالات الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية، تحدث قبل سن الرابعة عشرة. فمن بين جميع أطفال العالم ومراهقيه، يعاني 20% منهم من نوع أو آخر من المشاكل نفسية أو العقلية. وهذا الانتشار الواسع لتلك الأمراض بين صغار السن، يترافق مع تدهور ملحوظ في مستوى الرعاية الطبية النفسية في مناطق العالم التي تتميز بوجود مجتمعات صغيرة السن. أي أنه في الدول التي يتميز سكانها بصغر أعمارهم، وبالتالي يوجد فيها عدد أكبر من حالات الاضطرابات النفسية، نجد أنها تفتقر للمصادر والخدمات القادرة على توفير الرعاية المناسبة لهؤلاء المرضى. وهذا الوضع يتضح من حقيقة أن الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، يوجد فيها طبيب واحد متخصص في أمراض الأطفال النفسية لكل أربعة ملايين من السكان، وينقص فيها بصفة عامة حجم المصادر المالية المخصصة لعلاج الأمراض النفسية. والحقيقة الثانية: أنه في كل عام، ينتحر حوالي 800 ألف شخص. وعلى عكس الاعتقاد الشائع بأن الانتحار يحدث بشكل أكبر بين سكان الدول الاسكندنافية أو اليابان وكوريا، نجد أن 86% من حالات الانتحار تحدث في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل. ويقع أكثر من نصف تلك الحالات بين سن الخامسة عشرة والرابعة والأربعين. ورغم أن أسباب الانتحار تختلف وتتعدد بشكل كبير، إلا أن الأمراض النفسية والعقلية تحتل دائماً مكانة مهمة على قائمة أسباب الانتحار. وهذه الأمراض يمكن في الكثير من الحالات علاجها، وبالتالي إنقاذ حياة الكثيرين، ومنعهم من الوصول إلى هذه النهاية المؤسفة. والحقيقة الثالثة: أنه بخلاف الانتحار، نجد أن الاضطرابات النفسية والعقلية تعتبر عاملَ خطرٍ بالغ الأهمية خلف الإصابة بالأمراض المُعدية وغير المعدية، وربما حتى الأذى الجسدي سواء كان المتعمد منه أو غير المتعمد. وفي الوقت ذاته، يمكن للعديد من الأمراض أن تزيد من احتمالات الإصابة بالاضطرابات النفسية والعقلية، مما يعقد إجراءات التشخيص والعلاج. وأفضل مثال على ذلك هو البدانة والسمنة المفرطة، والتي يربط البعض بينها وبين زيادة احتمالات الإصابة بالاكتئاب، وبالانفصام، واضطرابات الفزع المفرط. وإذا ما عدنا لمرض الاكتئاب، فسنجد أنه يحتل المرتبة السابعة بين الأمراض، من حيث العبء الصحي والاقتصادي ومقدار الإعاقة التي يتسبب فيها. والاكتئاب الذي نتحدث عنه هنا هو الاكتئاب المرَضي أو الإكلينيكي، والذي يتميز بحالة مستمرة من الحزن الشديد، وفقدان الإحساس بالمتع واللذات المعتادة، مع اليأس التام من الحياة. وربما كان أهم ما يفرق معنى الاكتئاب لدى العامة عن معناه الطبي، هو أنه في الحالة المرضية، يفقد المريض قدرته على تأدية مهام الحياة اليومية الروتينية، مثل الاحتفاظ بعمله أو العناية بنظافته اليومية، ويصبح عاجزاً عن التواصل والتفاعل الاجتماعي. وتشير التقديرات الدولية إلى أن 16% من البشر يصابون في فترة من فترات حياتهم بالاكتئاب المرضي. ففي الولايات المتحدة مثلاً، نجد أن الاكتئاب يصيب 6.5% من النساء الأميركيات. أما في كندا، فيعاني 5% من السكان من الاكتئاب المرضي. وفي بريطانيا يصاب شخص واحد من بين كل خمسة أشخاص بالاكتئاب المرضي في مرحلة ما من حياته. وإذا ما استخدمنا الأرقام السابقة، للاستدلال على مدى انتشار الاكتئاب الإكلينيكي في الدول الأخرى، يمكننا الاستنتاج بأن هذا المرض يصيب عشرات الملايين وربما مئات الملايين حول العالم، ليؤثر سلباً وبشكل هائل على صحتهم العامة، وليكلف اقتصاديات دولهم المليارات من الدولارات، بين مصاريف وتكاليف العلاج، وبين حجم الإنتاجية المفقودة التي كان يتوقع لهؤلاء المرضى أن يساهموا بها في اقتصاديات مجتمعاتهم. د. أكمل عبد الحكيم