استكمالاً لحديث لم يُرد له أن ينتهي، تواترت ردود أفعال القراء على مقال الأسبوع الماضي، الذي حمل هموم وشجون موظفي حكومة دبي حول تسكين وظيفي جديد على سلم وظيفي مستحدث، ترافق مع بدء سريان قانون الموارد البشرية الجديد. لم يكن المقال رفضاً للتغيير الإداري ولا يهدف إلى القبول المطلق بقدر التسكين الجديد. كلنا معنيون شئنا أم أبينا- التصاقاً بالحدث أو انعكاسا ًلما يحصل في المجتمع- أن نعطي منبراً للحديث بحد ذاته مسؤولية تتطلب أن يكون صوتنا انعكاساً للحدث، وهو الحدث الأبرز والأهم على الساحة المحلية، ويبقى الحديث والنقاش فعلا صحيا في المجتمع، فلمَ كان للتسكين وقع الصدمة على غالبية الموظفين رغم أن قانون الموارد البشرية الجديد قد عرض للنقاش العام في وسائل الإعلام وتداولته غالبية الدوائر المحلية قبل أن يصبح نافذاً، ولمَ لم توفق اللجنة المنوط بها تقييم الوظائف في جولاتها التعريفية عند شرح معايير التقييم وأسس التسكين. ردود الأفعال الواسعة، حتى ولو لم تجد لها ساحة إعلامية، تنم عن خلل ما، فلا يعقل أن تتوافق ردود الأفعال على رفض التسكين الوظيفي في غالبية الدوائر التي شملها التسكين، لا أحد يرفض التغيير والتطوير في القوانين والبنى الإدارية، لكن ردود الأفعال السلبية تتطلب التوقف عندها خاصة إذا ما زادت وتنوعت عن النسب الطبيعية التي يمكن أن نصنفها في خانة رافضي التغيير أو التحديث في أي إدارة أو مؤسسة، أين كان الخلل؟ وعن أي مخارج نبحث؟ بعد مرور شهر على التسكين، لايزال القطاع الحكومي على صفيح ساخن بين رفض وتظلم وسكوت على مضض، والأخطر من ذلك أن يصبح النظام بيئة للشائعات فعندما يتعلق الموضوع بمصائر الموظفين بخياراتهم في الحياة لا بد وأن تكون الصورة واضحة وأن يتم التعاطي بكل شفافية وأن يتم تدارك الأوضاع. حاولت بعض الإدارات امتصاص ردود الأفعال، والتي اعتبرت وقتية للموظفين، وبكل ذكاء خرج مسؤولوها لوسائل الإعلام معلنين أنه قد وقع ظلم على موظفيها، وبالتالي شكلت لجان لدراسة التظلمات، لكن يجب التأكيد والتأكد من أن هذه اللجان تهدف إلى الإنصاف لا إلى الرغبة في امتصاص ردود الأفعال السلبية، بمعنى أن تصبح مسكنات وقتيه ثم يتم القبول بالأمر الواقع والتعايش معه، وهي وللأسف الشديد سياسة تطبقها الإدارات العليا بكل ميكافيلية. ألم يكن من الأجدر في البداية أن يتم تدارس التسكين الوظيفي بين إدارات الموارد البشرية ومواردها البشرية قبل أن يتم التسكين الفعلي، فلماذا عولجت المسألة خلف الأبواب المغلقة ولم تخرج للعلن إلا بخطابات التسكين أو خطابات الأمر الواقع؟ اليوم من المهم وضع اليد على مواضع الخلل والقبول بتصحيح الأخطاء ورفع المظالم، وقبل كل ذلك شرح معايير التسكين بكل شفافية حتى لو تطلب ذلك من إدارات الموارد البشرية تدارس كل حالة على حدة والتعاطي معها كحالة لها خصوصية في الخبرات والشهادات لا كمسمى وظيفي فقط. إن ردود الأفعال الأولية للتسكين نشأت عن مقارنات الموظفين لسلم درجاتهم القديم بالتسكين على الفئات والدرجات الجديدة، ولعل الجانب الغائب من المشهد العام للثورة هو الجانب النفسي للتسكين، فالمساواة في المسمى الوظيفي ألغت سنوات من الخبرة أو شهادات عليا حصل عليها الموظف تعلو على مسماه الوظيفي، إن جانب التقدير المعنوي غاب بشكل عام عن من حددوا القيمة الفعلية لكل وظيفة محددة بالقيمة السوقية لها، لا أحد ينكر وجود زيادات متفاوتة في الرواتب، لكن الأهم من كل ذلك وجود رضا نفسي لدى الموظف بأن سنوات من العمل والكد لم ترميها جرة قلم في سلة المهملات. لمَ يتحمل الموظف أوزار إدارة موارد بشرية لم تملك المؤهلات ولا القدرات لإدارة مواردها بالطريقة السليمة للاستفادة من الخبرات المتراكمة؟ لا أحد يرفض المنطق الذي بنيت عليه أسس التسكين لكن البنى الجاهزة أحياناً لا تصلح للتكييف على المجتمعات المختلفة، وتظل مسألة التقدير النفسي والرضا الوظيفي بعيدة عن حسابات السوق، طالما كان محورها الإنسان. تشخيص الحالة يبدأ بالقبول بوجود خطأ ما في التطبيق، وبالتالي العمل على تدارك الأخطاء وتصحيح المسارات، وهذا ما حصل في غالبية الدوائر المحلية في إمارة دبي إذا فتح مجال التظلم الإداري، ورفع آلاف الموظفين تظلماتهم في القنوات الرسمية. حددت بعض الدوائر فترة ستمتد لثلاثة أشهر، يتم خلالها تدارس الأعداد الهائلة من التظلمات، ومن ثم سترفع التوصيات لتعديل الأوضاع أو لرفض التظلم، وهما المساران المنطقيان، لكن والعجيب من كل ذلك رفض بعضهم الآخر من الدوائر حق الموظف في التظلم الإداري مصادرين حق الموظف في الشكوى، محددين خيارات الموظف بالقبول أو الاستقالة، وهو منطق عفا عليه الزمن. العلانية كانت الحلقة المفقودة على مستوى الدوائر، لكن لا يمكن إنكار جهود اللجنة المناط بها تسكين الوظائف من المكتب التنفيذي في شرح آلية التسكين لدى دوائر حكومة دبي، فالمحاضرات التعريفية بأسس التسكين تمت في كل الدوائر، غير أنه، وكما قلنا سابقاً، لم تتضح الصورة لغالبية المعنيين إلا بخطابات التسكين. اليوم وتداركاً لأوضاع لا يُرجى أن تستفحل، فإن العنصر الأساسي المطلوب في المرحلة القادمة هو العلانية والشفافية، وهي مرحلة من التطور الإداري لا نشك في توافر آلياتها لدى الأجهزة الإدارية في دوائر دبي - ومنذ سنوات- في نهج تطبيق معايير الجودة الشاملة وتعزيز الشفافية في اتخاذ القرارات، ومحاربة المحسوبية وتشجيع الإبداع. عودتنا لحديث تسكين الوظائف في دبي تأتي استكمالاً لحديث كان ولا بد وأن نخوض في تفاصيله، وأن نستشرف أبعاده المستقبلية، وأن نترقب ما سيترتب على أكوام من رسائل التظلم بحثاً عن عدالة ترضي غالبية الموظفين المتظلمين، حتى لا تكون في خاتمة المطاف المساواة في الظلم... عدالة!