ألقى إعلان رئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف قراره العودة عنوة إلى إسلام أباد الآن، تزامناً مع قرار مشابه اتخذته زعيمة المعارضة الأخرى بنظير بوتو، حجراً هائلاً في بركة الحياة السياسية الباكستانية، هو وحده ما يفسر إلحاح وكثرة المناشدات الدولية والإقليمية التي انهالت على شريف تحديداً، داعية إياه إلى التريث وعدم التسرع في "عودة" إلى البلاد لم تنضج شروطها السياسية في حالته هو، تحديداً. هذا في حين صدرت تصريحات وإشارات مختلفة من داخل باكستان نفسها، بعضها مرحبٌ بهذه "العودة"، خاصة في صفوف أنصار شريف والهيئة القضائية، وكثير أيضاً غير مرحب بل متوعِّد، وخاصة تلك الصادرة من مواقع اتخاذ القرار المؤثرة في إسلام اباد، وهي مواقع –للمفارقة- يعرف نواز شريف جيداً كل منعرجات الطريق المؤدية إليها، كما يحفظ عن ظهر قلب جميع ثُنيَّات وداع المُغادرين منها. وقد تحول بسرعة تباين ردود الفعل الداخلية والخارجية تجاه عودة كل من شريف وبوتو إلى طريقة بليغة في تسجيل المواقف من كل منهما، كما عكس نقطة افتراق لا تبدو لها خطوط رجعة قريبة بين مسار زعيمي المعارضة الباكستانية العتيدين، وعلى نحو لا يصدق معه فقط القول إن السياسة هي فن التصرف في الممكن، بل يشير بوضوح إلى أن تعقيدات المشهد السياسي الباكستاني مقبلة على اصطفافات ومفاجآت قد لا تخطر الآن على بال. لكن قبل الخوض في استباق وقراءة "النهايات" الممكنة لـ"عودة نواز"، لماذا لا نستدعي البداية، كما تقتضي الأصول، خاصة أن لشريف قصة طويلة تستحق أن تروى. ولد ميان محمد نواز شريف في يوم 25 ديسمبر 1949 بمدينة لاهور، وهو الابن الأكبر لمحمد شريف أحد أثرياء المدينة ورجال أعمالها البارزين. وبعد إتمام دراسته الثانوية في مدرسة سانت أنتوني، تحصل على باكلوريوس في القانون من جامعة البنجاب. ودخل الحياة السياسية من بابها الواسع باعتباره عضواً بمجلس البنجاب، ثم وزيراً في حكومة الإقليم، حيث حمل حقيبة وزارة المالية عام 1981، التي أجرى فيها إصلاحات مكنته من توجيه 70% من مخصصات برنامج التنمية في البنجاب لتنمية المناطق الريفية الفقيرة تحديداً، إضافة إلى تقلده لمنصب وزير الرياضة، ما سمح له بقرع قلوب البنجابيين من أحب بوابتين إليهم وهما الرياضة ورفع مستوى معيشة مناطق الظل الفقيرة. وفي الانتخابات العامة لسنة 1985 حقق فوزاً ساحقاً، أصبح بمقتضاه في 9 أبريل 1985، كبير وزراء الولاية. وفي 6 نوفمبر 1990 أصبح رئيس وزراء لعموم باكستان، بعد فوز تحالفه IJI في انتخابات 24 أكتوبر من نفس العام. واستمر في هذه الوظيفة حتى أقاله رئيس الدولة عام 1993، قبل أن تبطل المحكمة العليا ذلك القرار بعد عشرة أسابيع، ليعود للتنحي مجدداً لأسباب مختلفة في يوليو 1993. وعندما حقق حزبه نتائج باهرة في انتخابات 1997 عاد مرة ثانية إلى رئاسة الوزارة، وكان أكثر ما سعى إلى تحقيقه هو استغلال أغلبيته البرلمانية لتعديل فقرة في الدستور تسمح للرئيس بإقالة رئيس الحكومة، وكانت مرارات تجاربه السابقة حاضرة بقوة في هذا التدبير الحاذق. ونتيجة لإخفاقات "حرب كارجيل" سنة 1999 وتنامي الضغوط الأميركية على شريف لسحب قواته منها، ورضوخه هو مكرهاً لذلك، إضافة إلى تضخم مصاعب الاقتصاد الباكستاني، تآكلت شعبية الرجل الداخلية، بشكل بالغ الخطر، ولم تتأخر المؤسسة العسكرية في التقاط هذا المؤشر، وعندها تحديداً بدأ العد العكسي لفترة حكمه الثانية. وكانت البداية –كما يمكن أن نتوقع- بتردي علاقته مع قائد الجيش الجنرال برويز مشرف، الذي تصرف بعد ما قيل إنه أمر صدر من نواز شريف لمطار كراتشي في 12 أكتوبر 1999 بعدم السماح بهبوط طائرة تقل الجنرال و200 راكب آخرين، ما كان يعني عملياً سقوطاً مؤكداً للطائرة وموتاً لكل ركابها. وعلى هذه الخلفية وقع انقلاب الجيش حيث تولى مشرف السلطة، وأُرسل شريف إلى السجن وحوكم وصدر بحقه حكم بالإعدام عدة مرات سنة 2000 بعد إدانته بتُهم كثيرة أخفها الفساد وسرقة المال العام، والتهرب الضريبي، وأخيراً الإرهاب والتآمر والشروع في القتل مع سبق الإصرار والترصد. ولكن السلطات قبلت بعد مساعٍ داخلية وإقليمية مؤثرة تخفيف هذا الحكم إلى السجن، ثم إلى النفي مقابل تعهد بعدم العودة قبل 10 سنوات. والواقع أن توازنات المشهد السياسي الباكستاني المحيطة الآن بعودة شريف أكثر تعقيداً بكثير من أن تصنف ضمن ما هو معهود من علاقات وحساسيات تنشب عادة بين أطراف الطبقة السياسية في أي بلد. ذلك أن تاريخ الجمهورية الإسلامية منذ استقلالها في أغسطس 1947 تختصره تجاذبات توازن فسيفسائي بالغ الصعوبة بين مختلف السلطات والأقاليم والأحزاب والجماعات السياسية المؤثرة. فإذا كان شرط قيام نظام حكم ديمقراطي عادة هو تكريس التوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في الدولة دون أن تتغوَّل إحداها على الأخرى، فإن الحالة الباكستانية تعد استثناءً واضحاً من هذه القاعدة، حيث كثيراً ما تتغول السلطة القضائية أو التنفيذية، وغالباً ما تكون السلطة التشريعية هي "الجائزة" التي يضع الفائز يده عليها في نهاية المطاف. وفي خضم تاريخ سياسي يدور حول نفسه كل 10 سنوات تقريباً، ظل يتناوب على مواقع الحكم في باكستان الحكمان المدني والعسكري، وتطفو وتغيب عن السطح تيارات ليبرالية متناحرة، وطوفان من المد الديني قد يتقن كل شيء سوى التحكم في الأعصاب أو الوقوف في الوسط الهندسي بين الساسة المتناحرين. وما هو أكثر تعقيداً من اختلال التوازن المزمن بين السلطات في باكستان، تلك الحساسيات الإقليمية الصامتة بين الإقليمين الأكبر: البنجاب والسند، والأقاليم الأصغر في الشمال والجنوب الغربي، والحركات الانفصالية في بلوشستان، والقبلية الفوضوية في وزيرستان، بامتداداتها المتشعبة والمنفتحة، بكل معنى الكلمة، على جميع ممكنات ومكونات عش الدبابير "الطالباني" الأفغاني. وعلى هذه الخلفية، وما تطفح به من مصاعب وتعقيدات في علاقات أطراف الحكم القائم في إسلام أباد، وأيضاً في علاقات باكستان وإدارة بوش، يأتي سباق العودة الآن بين أقطاب المعارضة الباكستانية، على أمل أن تكون الظروف الحالية ناضجة سياسياً لظهور موقف أميركي شبيه بذلك الذي وقفته واشنطن من الجنرال أيوب خان عندما بدأ يغازل السوفييت بعد حربه مع الهند سنة 1965، أو ذلك الذي اتخذته من الجنرال ضياء الحق بعد انتفاء الحاجة إليه إثر قرار السوفييت بالانسحاب من أفغانستان سنة 1987. وبين أعباء الذاكرة السياسية المثقلة و"أضابير" القراءات المختلفة لـ"الحالة" الباكستانية اليوم، ووسط خرائط جامحة من الاستثناءات الديمقراطية والاستعصاءات الدينية والقبلية، تطل مفاعيل أزمة "عودة" نواز الحالية واستحقاقاتها متوجهة بإبر مؤشراتها في اتجاهات مختلفة تفترق طرقها حتى نهاية الأفق، وبعد الأفق أيضاً. الحسن ولد المختار