بعد شد وجذب طال أمدُهما نسبياً، وصل إلى رئاسة الجمهورية التركية شخص يُقال إنه ينتمي إلى التيار الديني في تركيا، ورغم عدم الوضوح القاطع لدرجة الانتماء السياسي الديني لعبدالله جول، إلا أن خصومه السياسيين من عتاة العلمانية داخل المؤسسة العسكرية وخارجها، يصرون على ذلك، ويقولون إنه يكفي لديهم أن يكون الدليل هو ارتداء زوجته الحجاب، أو الغطاء الذي تضعه على رأسها، ومن هذا المنطلق فإن وصول شخص ينتمي إلى التيار الديني يعد خطراً جسيماً على مسيرة الدولة العلمانية في تركيا، وأنه قد يؤدي إلى اندثار الأسس التي قامت عليها وأرساها مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك أو أبو الأتراك. وقبل أن يصل "جول" إلى كرسي الرئاسة، حدثت مواجهة بينه وبين المؤسسة العلمانية، وقبل الانتخابات الأخيرة التي أجريت وفاز بها حزب "العدالة والتنمية"، الذي ينتمي إليه "جول"، لم يتمكن الأخير من كسب الأصوات اللازمة للحصول على المنصب، ولكن بعد الانتخابات التي اكتسح فيها حزب "العدالة" بقية الأحزاب مجتمعة وحقق فوزاً لم يكن متوقعاً بتلك الطريقة الواضحة فإن كفة "عبدالله جول"، رَجَحت، واستطاع أن يحرز 339 صوتاً لصالحه، وهي وإن كانت نسبة ضئيلة مقارنة بعدد أصوات أعضاء البرلمان مجتمعين، إلا أنها كانت كافية لوصوله إلى رئاسة الجمهورية، التي لا زالت إلى الآن علمانية خالصة، وإن كان يحكمها حزب ينتمي إلى التيار الديني. وفي فوزه أدلى "عبدالله جول" بالعديد من التصريحات التي يؤكد فيها أنه لن يتخلى عن مبادئ الدولة العلمانية، وأنه سيكون رئيساً لجميع الأتراك. وبالتأكيد فإن هذه التصريحات لم تقنع المؤسسة العسكرية العلمانية ولم تغير من نظرتها بأن تركز السلطة في يد السياسيين الذين ينتمون إلى التيار الديني من خلال رئاسة مجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية، يعد خطراً على مسيرة الدولة العلمانية في تركيا، وأن هذه المسيرة قد تتغير وتقوم بدلاً عنها دولة دينية متطرفة كما هو الحال في إيران مثلاً. وقد يكون منبع هذه المخاوف لدى المؤسسة العسكرية هو أن رئيس الجمهورية هو الذي يقوم بالتوقيع والمصادقة على كافة التعيينات المهمة داخل المؤسسة العسكرية لكبار القادة والضباط والرتب المفصلية، وقد تكون هذه المخاوف في محلها لو أن رئيس الجمهورية الجديد ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عملا سوياً وبمنهجية مخطط لها على إحلال القيادات العسكرية العلمانية الحالية بقيادات جديدة يقومان باختيارها من أوساط الرتب العسكرية العليا التي يعتقدون أنها ذات ميول دينية. وبرغم التصريحات المطمئنة للمؤسسة العسكرية والعلمانية التي أدلى بها الرئيس الجديد، فإن المؤشرات المستقبلية الآتية من تركيا تشير إلى أن موجاتٍ من التوتر الشديد مع المؤسسة العسكرية تقبع أمام عبدالله جول، فكبار القادة العسكريين الأتراك لم يحضروا حفل تنصيب الرئيس الجديد الذي أدلى فيه بأنه سيحترم القوانين التركية ويحافظ على مبادئ الدولة العلمانية. إن عدم الحضور هذا مثير جداً للانتباه، فـ"عبدالله جول" بمنصبه الجديد كرئيس للجمهورية، هو أيضاً القائد الأعلى للقوات المسلحة، أي رئيس جميع الجنرالات الكبار الذين لم يحضروا، فلماذا كانت هذه المقاطعة؟ وهل أتت من فراغ؟ إن التفسير الوحيد لذلك، هو أن ما حدث هو مقاطعة صريحة واحتجاج واضح على وجود الرئيس الجديد في منصبه، وهو أمر ينبئ بخطر حدوث انقلاب عسكري لو أن الأمور سارت على غير هوى المؤسسة العسكرية وغلاة العلمانيين فيها وفي خارجها. ومن مجمل التصريحات التطمينية التي أدلى بها "جول" فور حصوله على الأصوات اللازمة داخل البرلمان، يبدو أنه مدرك تماماً لخطورة موقفه وموقف البلاد في المجمل، لو أنه اتخذ موقفاً واضحاً ضد العسكر والعلمانية التي ينتهجونها، ولكنه حتى الآن بدا حريصاً ومتحفظاً في تصريحاته ومواقفه، ويحاول أن يلفت أنظار كافة الأتراك نحو قضايا مصيرية أهم لتركيا من انتخاب رئيس جمهورية ذي ميول دينية، فهو يحاول أن يقنع الأتراك بأنه سيعمل على إنعاش الاقتصاد، وتوفير الوظائف الجديدة، وتنشيط حركة التجارة مع الخارج، والالتزام بمواقف تركيا تجاه حلفائها الغربيين، والدخول في علاقات مصالح جديدة مع جيران تركيا العرب والروس، وفوق ذلك كله العمل الدؤوب على إدخال تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. والنقطة الأخيرة هذه تعد في صميم تخصص عبدالله جول، فهو الذي حاول كثيراً في هذا المجال من خلال منصبه السابق كوزير للخارجية من خلال إدخال إصلاحات هيكلية إلى الاقتصاد التركي، وممارسات حقوق الإنسان، خاصة إلغاء عقوبة الإعدام. إن هذه الممارسات مجتمعة تدل دلالة واضحة على أن الرئيس الجديد يحاول أن يرضي كافة أطياف المجتمع التركي؛ فهو يحاول استرضاء العامة بنفس القدر الذي يحاول فيه استرضاء المؤسسة العسكرية والعلمانية، وهو يحاول مهادنة خصومه السياسيين مثلما يحاول استقطاب المزيد من الدعم من شركائه وحلفائه في حزب "العدالة والتنمية"، فهل يستطيع مَسك العصا من المنتصف إلى ما لا نهاية؟ أمر مشكوك فيه، خاصة في مواجهة العسكر والتهم العسكرية الجبارة.