خلال عام من الزمن حقق لبنان انتصارين كبيرين مهمين مميزين، يتجاوز تقويم نتائجهما حدود الساحة اللبنانية. الانتصار الأول تحقق في حرب تموز (2006) التي استهدفت فيها إسرائيل كل شيء في لبنان واستخدمت كل أسلحتها وأساليبها ووسائلها وإمكاناتها وفشلت. ولا تزال ارتدادات الفشل تدوّي في الأوساط الإسرائيلية العسكرية والسياسية والأمنية. وبالقياس النسبي مع ظروف وإمكانات المقاومة والشعب اللبناني، يمكن القول وباعتراف الاسرائيليين أنفسهم، إن لبنان كان متفوقاً بإنسانه وصموده وإرادته وتمسكه بأرضه واستفاد من خبراته، وبالرغم من كل الترسانة العسكرية الإسرائيلية فقد سقطت مرة جديدة أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأذلت إسرائيل على الأرض اللبنانية، ويتهم القادة الإسرائيليون بعضهم بعضاً ويحاول فريق منهم المزايدة وتقديم نفسه في الوسط السياسي والعسكري، وكأنه المنقذ والقادر على "استعادة شرف الأمة وكرامتها" وكرامة الجيش! في النهاية سقطت إسرائيل وربح لبنان رغم كل الخلافات والانقسامات والاجتهادات في الوسط السياسي اللبناني، ولكن حصل ما كنت أحذر منه دائماً خلال الحرب وبعدها. لم يتم تثمير الانتصار التاريخي الكبير، بل ما جرى بعد الحرب من حرب اتهام وتشكيك وتخوين وتحركات من قبل من حقق الانتصار في وجه شركائه في هذا العمل، وما تراكم من ممارسات سلبية وتهديدات وتوترات خلال الأشهر الماضية، كل ذلك ساهم في تدمير جزء كبير من صورة ذلك الإنجاز. لقد كان ذلك خطأً كبيراً وكانت كلفته كبيرة. والانتصار ليس ملك فريق، ولا يحق لأحد التفريط به عن قصد أو عن سوء إدارة أو تقدير أو تصرف، لأن انعكاسات ذلك ستكون على مستوى البلد ككل، وهذا ما حصل للأسف، ولا تزال النتائج السلبية تتفاعل أمامنا، وأزمة الثقة بين اللبنانيين تتعمق. رغم ذلك، وفي ظل أجواء مشحونة ومخاطر كبيرة يعيشها اللبنانيون وقلق يساورهم ويطاردهم أمام كل حادث وفي انتظار استحقاقات، فرضت منظمة "فتح الإسلام" حرباً على الجيش اللبناني. ولم يكن كثيرون يعلمون من هي المنظمة وما هو مشروعها، وما هي قدراتها وإمكاناتها حتى اكتشف الجميع أن وراء العملية مشروعاً سياسياً كبيراً كان يهدف إلى إقامة إمارة إسلامية في طرابلس والسيطرة على المنطقة وفرض نظام عليها، وأن أصحابه يملكون من الخبرات والإمكانات ما يخيف دولاً وأنظمة ولديهم القدرة على زعزعة الأمن والاستقرار في أكثر من مكان. وبالتجربة الملموسة فقد عجزت دول أكثر تقدماً وخبرة وأكثر تجهيزاً واستعداداً من لبنان، عن مواجهة خطر مماثل، وهي في مواجهة مفتوحة معه. عندما بدأ الجيش معركة الدفاع عن نفسه، وإمكاناته ضئيلة متواضعة لا تقارن بإمكانات الآخرين، وفي مواجهة قوى سيطرت على مخيم فلسطيني وأخذت الموجودين فيه رهائن مع ما يعني ذلك من حساسية في لبنان، شكك كثيرون بالنتائج. وراح كثيرون يتحدثون عن توقعات مخيفة تحمل احتمالات انقسام المؤسسة العسكرية في ظل الخلافات السياسية العميقة، والاتهامات المتبادلة بين القوى السياسية، وإزاء إعلان فريق وضع خطوطاً حُمْراً أمام الجيش في معركته وقال كثيرون إن الجيش يخوض معركة استنزاف كبرى، ولن يتمكن من حسمها، والتزم آخرون نظرية "توريط الجيش" في حرب غير مبررة وغرقوا في تفسير أحلام وأوهام هذه الجهة أو تلك التي تتحدث عن عملية مركبة، وكأنه لا أساس لـ "فتح الإسلام" ولا مشروع لديها. في النهاية انكشفت الحقائق إلى حدود بعيدة، وتبين حجم خطر هذه المنظمة، وحجم إمكاناتها وارتباطاتها، وثمة الكثير مما يمكن معرفته بعد انتهاء التحقيقات الجارية مع الموقوفين من عناصر هذه المنظمة، وانتصر الجيش وأسقط كل التوقعات السلبية وكان انتصاره كبيراً. نعم: هو انتصار إنجاز. انتصار يمكن اعتباره فريداً. لقد جاء خبراء عسكريون أجانب الى لبنان. درسوا الوضع استمعوا إلى القادة العسكريين اللبنانيين وخرجوا مذهولين كيف يقاتل هذا الجيش؟ بأي إمكانات؟ ومن يقاتل؟ هؤلاء طرحوا أيضاً ملاحظاتٍ وتساؤلاتٍ حول النتائج. وأكبر الجيوش غرق في مواجهات مع الإرهاب وخير شاهد على ذلك الفشل الأميركي في العراق، وعندما نشير إلى الجيش الأميركي وما يملكه من إمكانات، نشعر بالاعتزاز أكثر فأكثر بالجيش اللبناني ودوره ونجاحه وتضحيات ضباطه وجنوده. نعم: نجح الجيش اللبناني حيث فشلت جيوش دول كبرى في أكثر من مكان. وهذا الانتصار موضع تقويم جديٍّ من قادة هذه الجيوش. لماذا هذا الكلام؟ للتأكيد أن هذا الانتصار الثاني في لبنان خلال عام، وبعد تدمير جزء كبير من صورة الانتصار الأول، ورغم الجراح السياسية والأمنية في الداخل، كان أملاً جديداً. وكان إنجازاً جديداً. يجب ألا يصيبه ما أصاب الإنجاز الأول، وألا يفرط اللبنانيون بما تحقق. نعم: نحن مدعوون الى تثمير هذا الانتصار بما يرسخ نتائجه ويحمي ما تبقى من الانتصار الأول ويعيد الثقة بين اللبنانيين. حرام أن ينتصر بلد صغير كلبنان ويحقق الإعجاز تلو الإعجاز، ثم ينكسر على يد أبنائه المنتصرين أنفسهم. حرام أن ينتصر لبنان في وجه "القاعدة"، وأن تنكسر بعد ذلك القاعدة التي يجب أن نلتزمها جميعاً وهي سيادة وكرامة واستقلال البلد بعيداً عن أي تدخل خارجي... أي تدخل. حرام أن ينتصر لبنان مرتين ويكسر انتصاريه، وحرام أن نبقى دولة تربح أكبر المعارك ضد الآخرين لنخوض المعارك ضد بعضنا، فنخسرها ونخسر الوطن ونضعف الدولة ومؤسساتها. لقد آن الأوان لنتعلم. آن الأوان لأن نحتكم إلى الدولة ومؤسساتها ونحميها ونقويها بدءاً من الجيش والمؤسسات الأمنية وصولاً إلى العدالة. هذا هو الدرس الذي لا بد من استخلاصه من الانتصارين الإنجازين الكبيرين.