هل هناك علاقة بين عمر الفرد والعمل الذي يقوم به، وهل هناك سنّ معينة تتحتم فيها على كل فرد أن يترك العمل الذي يقوم به منذ سنين عديدة ليقعد عاطلاً، أو متقاعداً عن العمل؟ يبدو أن هذه هي الفلسفة السائدة منذ تطور العصر الصناعي، حين بدأت المجتمعات تحترم حياة الأفراد وخدمتهم، وتعتقد أنهم قدموا الشيء الكثير خلال أربعين عاماً أو نحوها من الكدّ والجدّ، وأنه قد حان وقت الاسترخاء حين يبلغ الفرد سن الستين، أو الخامسة والستين. مثل هذه الفلسفة ظلت قائمة خلال المئة عام الماضية، ولكنها اليوم تتعرض لتساؤلات وتقييم جديدين. وليست فرضية التقاعد مقصورة فقط على المجتمعات الصناعية، بل هي كذلك سائدة، ولو بشكل اجتماعي أو ثقافي في المجتمعات الشرقية والعربية، التي تنظر بعين الاحترام إلى الرجل المسنّ وتحاول تربية النشء على احترام الكبار وإجلالهم وتقديم كافة الخدمات إليهم، حتى لو لم يطلبوا ذلك من الصغار. وأذكر قبل سنوات حين زرت مدينة "سالسبورغ" النسماوية، وهي مدينة جبلية جميلة، أن الشخص الذي كان يملأ خزان سيارتي كان رجلاً مسناً، وقد شعرت حينها بشيء من الحرج، إلا أن أحدهم ذكر لي أن معظم سكان تلك المدينة هم من المتقاعدين، الذين يحاولون الحصول على بعض المصروفات من خدمة السائحين خلال فترة الصيف. وخلال إجازتي الصيفية هذا العام، عرَّجت على مدينتي القديمة، ساكرمنتو، بولاية كاليفورنيا، لأزور صديقاً قديما بها يبلغ السادسة والسبعين، وعائلته. وكان لقاء جميلاً بهذا الصديق الذي لم أرَه منذ خمسة عشر عاماً، وقد فقد زوجته مؤخراً، وذكر لي أنه يشعر بفراغ كبير لفراقها، وأنه يملأ هذا الفراغ بالعمل، فهو يعمل حوالى 45 ساعة في الأسبوع، وبعضٌ من الأعمال التي يقوم بها أعمال تطوعية. وحيث إن منطقة وسط كاليفورنيا مشهورة بإنتاج الفواكه والخضروات، فقد ذكرني بأنه يعمل مع فريق من المتطوعين كبار السن في قطف الفواكه، التي تبقى على أشجار الفاكهة لسبب أو لآخر، بعد أن تقطف هذه الثمار من قبل العمال والشركات. وأن هناك 10% من الفواكه الموسمية تبقى على الأشجار، فيقوم هؤلاء المتطوعون صباح كل يوم اثنين من الرابعة صباحاً وحتى التاسعة، بقطف هذه الفواكه وتوزيعها على الجمعيات الخيرية، وأنهم قدموا حوالى خمسمائة ألف كيلوجرام من الفواكه في العام الماضي تبرعاً لهذه الجمعيات. وهناك سبب اقتصادي لعودة المتقاعدين مرة أخرى إلى العمل، فغالبية الشعوب الغربية، بما فيها اليابان تعاني من تقدم عمر سكانها، فمتوسط عمر الفرد في أوروبا الغربية هو في حدود 36 عاماً، وهو في الولايات المتحدة 35 عاماً، وفي اليابان 38 سنة. وذلك مقارنة بدول العالم الثالث التي يبلغ متوسط عمر سكانها حوالى 21 عاماً. وهذا يعني أن البلدان الصناعية بحاجة إلى دماء شابة للعمل في مصانعها وحقولها، وهذا لن يأتي إلا عبر سياسات ليبرالية للهجرة، وهو ما تفتقر إليه بعض هذه المجتمعات، أما المنحى الآخر فهو الاعتماد بشكل أكبر على خدمات كبار السن. وقد نشرت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" مؤخراً مقالاً مطولاً عن الشركات الأميركية، وكيف أن متوسط عمر الفرد العامل فيها يبلغ حوالى خمسين عاماً، وأن هذه الشركات ترى في هؤلاء العمال المهرة الكبار في السن خبرة لا يمكن تعويضها، لذلك فهي تسعى جاهدة إلى الحفاظ عليهم، وتدريبهم بشكل مستمر، وإغرائهم للبقاء عاملين فيها لفترة طويلة، حيث إن صبر هؤلاء الموظفين وجلَدهم يفوق أقرانهم من العمال صغار السن. وتبدو المشكلة أكثر حدّة في المجال الصحي والتعليمي، فقد اضطرت إحدى شركات توزيع الأدوية إلى السماح لموظفيها من كبار السن بالانتقال من ولاية لأخرى خلال فصول السنة، فهم يعملون في الصيف في المناطق الشمالية الباردة، وتسمح لهم هذه الشركات بالانتقال خلال الشتاء إلى العمل في المناطق الجنوبية الدافئة. ويبدو أن أخلاق العمل تختلف بين كبار السن وبين نظرائهم من الشباب، فغالبية الموظفين من الشباب ليسوا حريصين على الدقة في أعمالهم مثل أقرانهم من الأجيال السابقة، كما أن مستوى الخدمة التي يقدمونها أقل بكثير مما كان يُقدم من قبل. وقد أثر عامل السن كذلك في طرق الإنتاج، فطرق الإنتاج القديمة التي تعتمد على إنتاج أكبر قدر من السلع بأسرع وأرخص سعر ممكن، تغيرت بشكل كبير، ففي إنتاج الغذاء، على سبيل المثال، كانت شركات الأغذية السريعة تفخر بأنها تقدم لك وجبة ساخنة كاملة خلال ثلاث دقائق، حيث إن معظم الوجبات مسبقة التحضير، أما اليوم فإن مطاعم الوجبات السريعة لا تطبخ شطيرة "الهامبرجر"، إلا بعد أن تطلبها، وهم يقدمونها بالشكل والطعم الذي يعجبك، أنت وحدك، وليس على شاكلة طرق الإنتاج الوفيرة القديمة. وفي المقابل فإنك يجب أن تدفع سعراً أكبر لمثل هذه الوجبة، وأن تنتظر فترة أطول. وهنا تحلّ النوعية في الإنتاج محل الكمية، ويحرص مقدّم الخدمة على تقديم خدمة متميزة لعملائه، وإن كانت خدمة بطيئة. وظهرت مؤخراً بعض الشركات المتخصصة في تقديم خدمات كبار السن وخبراتهم إلى الشركات الراغبة في هذه الخدمة، وتقول شركة "يور إنكور" إنها تقدم خبرات المتقاعدين المسجلين لديها لحوالى خمسمائة شركة وبعضها من الشركات الكبرى مثل (جنرال ملز وبروكتور آند جاميل، وبوينج، وغيرها). وتقوم شركات أخرى بتشجيع المتقاعدين على العمل من منازلهم، وتحاول شركات ثانية إقناعهم في استثمار جزء من خبراتهم في فتح بعض المؤسسات الصغيرة، وتقدم لهم الخبرة والتخطيط المناسبين، لبدء هذه الاستثمارات. ومع ارتفاع الأسعار، فإن بعض الدراسات وجدت أن ثلث المتقاعدين بين سن الخامسة والخمسين والسبعين، يعودون مرة أخرى إلى العمل، ومعظمهم يفعل ذلك لأن دخله كمتقاعد لا يسمح له بأن يتمتع بمستوى جيّد من المعيشة، كما أن بعضاً منهم تغريه الخدمات الصحية والتأمين الاجتماعي الذي تقدمه هذه الشركات لموظفيها ولأسرهم. وهكذا، فإن سن الستين أو الخامسة والستين لم تعد ذلك الشبح الذي يطل برأسه على الموظفين السابقين، حيث إن سنوات العمل والخبرات المتراكمة عبر السنين، قد فتحت الباب مجدداً أمام هؤلاء الناس، في ظل اقتصادات مزدهرة لطرْق باب العمل مجدداً، والمساهمة في زيادة الإنتاج الصناعي والعلمي لبلدانهم.